ينمو الفكر ويتجدّد كما يتقبّلُ الفضاء قراءات مختلفة، وتختفي هيمنة المنطق الأحادي مع انطلاقة مشروع الترجمة. في العصر العباسي ظهرت تيارات فكرية أنتجت قراءات أصحابها للنصوص المقدّسة رؤية مُغايرة لمعطيات دينية وعقائدية، وهذا وفّر مناخاً مواتياً لسجالات ونقاشات فكرية، واستتبع ذلك الانشقاق داخل المذاهب والجماعات، وكل ذلك كان مؤشراً للحراك الفكري والزخم الحضاري والنضج العقلي.
عبور العصور المظلمة
طبعاً لولا العودة إلى التراث الإغريقي ومعرفة المنجزات الفكرية للحضارة الإسلامية ما تمكّن الغرب من عبور العصور المظلمة والانطلاق نحو مرحلة العطاء الفكري والفلسفي.
إذاً، فإنّ النهضة الفكرية والأدبية والفنيّة مرهونة بالانفتاح على الآخر، ولا يمكن إنجاز هذا التحوّل من دون وجود مشاريع الترجمة التي تؤدي دوراً أساسياً في إرساء مفهوم التنوّع في كل المجالات، كما تصبح داعماً مهماً للتنمية الحضارية إضافة إلى أنّ اللغة بوصفها وعاءً للفكر ومعبراً للقيم والسلوكيات قد تتخشبُ وتدخل في طور الركودِ مع غياب مشروع الترجمة، لأنّ التفاعل مع اللغات الأخرى هو ما يحقق للغتك تجدّداً وتطوّراً.
مع بداية القرن العشرين، عندما تعمّق الوعي بما وصلت اليه الدول الغربية من الإزدهار الفكري، وتابع المثقفون نتاجات الآخر، ظهرت أشكال أدبية جديدة من دون أن يكون لها جذور في التراث العربي، وذلك يعتبر إضافة للغة والفكر.
تطوّر اللغة
ومن ثمّ تطوّرت اللغة الشعرية وتخلّصت من قيود مُثقلة لحركتها، ولم يكن التفاعل منحصراً بالتراث الأوروبي، إنما مع العقد السابع للقرن العشرين فتحت قنوات التواصل مع الآثار الأدبية للأمم الأخرى، ودار الحديث في مطلع الثمانينات حول الواقعية السحرية قبل ذلك، وإنَّ عدداً كبيراً من الأدباء العرب إستفادوا من الروايات الروسية المترجمة في صياغة منجزاتهم الأدبية، واتخذ النص الروائي شكلاً مركباً وانعطف نحو المنحى الجديد، كما راجت الفلسفة الوجودية ومناقشة الأسئلة الماهوية في سياق النصوص الأدبية.
وفي ذلك كان التأثر واضحاً برواد الوجودية خصوصاً سارتر وكامو، وألقت الكافكوية بظلالها على الأعمال الأدبية وكانت بعض أصوات أدبية نسائية مطبوعة أيضاً بما ساد في الغرب من الاتجاهات الجديدة، وبموازة ذلك تبدّلت ذائقة القراء ورؤيتهم للأثر الأدبي، فلم تعد البلاغة والفخامة اللغوية مؤشراً لجودة النص بقدر ما أنّ المواكبة مع الوقائع والهموم الإنسانية هي ما تشغل اهتمام الكاتب ويعملُ عليه.
ومع فاتحة الألفية الجديدة صار إيقاع التحولات أسرع، كما تم نقل الأعمال الأدبية خصوصاً الرواية بغزارة، كما زاد اهتمام القارئ بما يترجمُ بحيثُ تتصدر الروايات المترجمة سلّم أكثر الكتب مبيعاً في المعارض، ومما صعّدَ من مستوى تداول الأعمال المترجمة هو انتشار وسائل التواصل الإجتماعي حيث أصبح المجال متاحاً لكل شخصٍ ليعبّر عن نظرته، وينشر رأيه ويناقش غيره حول الظواهر الأدبية.
هذا الواقع الجديد يكون عاملاً لتشكيل الذائقة المُختلفة، وإذا كان الناقد العربي يفوتهُ دائماً إجراء مقارنة بين النص المكتوب بالعربي وما يترجم، فإنّ القارئ العادي بدأ يتساءلُ عن المواضع التي تتقاطع فيها المؤلفات المنشورة بالعربية والأعمال المترجمة. صحيح أنه تمَّ رصد أثر بعض الأدباء العالميين في الروايات العربية، غير أنَّ هذا الموضوع يستدعي دراسة أعمق ومقاربة دقيقة لأنَّ ما يُنقل من اللغة الأخرى لا يرخي بظلاله على الأثر الأدبي فحسب إنما يغيّر نظرة القارئ وذائقته، وذلك يُعدّ تحدّياً بالنسبة للأديب العربي. إذ كلما يتابعُ القارئ منجزه يستدعي تجربته مع النصوص المترجمة.
وما يجدر بالذكر في هذا السياق هو التحولات التي يشهدها النص الروائي من حيث الشكل والصياغة، إضافة إلى توالد ثيمات جديدة مرتبطة أكثر بواقع الحياة والتحديات والتطورات العلمية، بحيثُ يعجنُ الروائي معلومات طبية وبيئية ورقمية في لحمة نصّه، الأمر الذي يفرضُ على الناقد مراجعة عدته لأنّ ما يعتمد عليه سابقاً قد لا يصلح لمقاربة النصوص الحديثة.
زد على ذلك فإنّ قراءة نصوص مترجمة لا بدّ أن تكون من أوليّات الناقد، إذا أراد تحديد خطوط التطور في الرواية العربية. وما يبعث على التفاؤل في حركة الترجمة هو ازدياد عدد المتخصصين في لغات مختلفة، وهذا يعني عدم الإعتماد على اللغة الوسيطة إضافة إلى الانكليزية والفرنسية والإسبانية برز من بين الجيل الجديد المترجمون من الصينية والكورية والإيطالية، كما أنّ بعض دور النشر العربية بدأت بنقل المؤلفات الأجنبية وفق برنامج مُحكم.
كل ذلك يخدم المستوى الثقافي ويفتح حلقات تواصل جديدة مع العالم بأسره، ويضيف كثيراً إلى الوسط الأدبي مع توالي الترجمات للمؤلفين المعاصرين، ولا يعاني القارئ حالة التكلس والتراوح في دائرة أسماء معينة إنما يصبح مدار رؤيته أوسع كلما زادت متابعته لعدد أكبر من المؤلفين، خصوصاً لمن يكتبون بغير لغته.
الجمهورية