فرنشيسكا ديغو وفرنشيسكا ليوناردي أثبتتا في الجامعة الأنطونية جدارةً في أنسنة الموسيقى وإيصالها إلى مخيّلة المتلقي، رسائل شوق بين حبيبين، من خلال المساكنة الروحيّة بين كمان وبيانو. في مستهل الأمسية كأن النغم يغدو في تألّقه على الوتر والملامس، كلاماً حيويّاً ينساب من وهج الحركة الأولى فيما الألليغرو كمطر ربيعي، يهيّج القوس ويمتص رحيق الملامس، وبتراجع الفرح يأتي الأداجيو في الحركة الثانية، مناقضاً للحزن، ملوّنا الغمامة الرمادية بشاعرية عاطفيّة من حقل موزار ورياحينه.
هكذا بدت لنا السوناتا الأولى، متأثّرة بالصبي المتأرجح على غيمة ضاحكة، لا غمّ ينغص دينامية الملامس الناقلة عدواها إلى الكمان ترطّب اكفهراره وتندّيها. في الحركة الثالثة، وموزار لا يزال سائراً أمام بيتهوفن، ينثر دربه بالتفاؤل، يظلّ البيانو متكابراً على الشجن، يساير الوتر ويتهادى به إلى فرح عابر. أما أوحت إلينا هذه المقطوعة الأولى بحركاتها الثلاث، نغماً موزاريا عالقاً في نفس بيتهوفن في بدايات مغامرته في فن السوناتا؟
بانتقال الثنائي إلى السوناتا الثانية بات بيتهوفن واضح الرؤيا، نقرأ رسالة مكتوبة بحبره، متشائمة ومتفائلة حسبما أملتها على ورقته الغيوم العابرة سماءه. السوناتا الثانية ارتفعت باعتزاز على قائمة السوناتات الكاملة، التي شاءت بها جامعة الأنطونية حدثا بيتهوفينياً لموسمها الموسيقي لهذا العام، بأداء عازفتين إيطاليتين، نفح بيتهوفن في مغامرتهما الشيّقة، الشاقة، مزاجه المتقلّب، وعبقريّته، وروحه الشامخة إلى العلى، فأتى العزف متعادلاً ومتعاكساً، يدعم بتقنيّة فائقة، ورهافة حسّوية، الأهليليجيات البيتهوفنية، والمناخات الضامرة تحت الجمل المكتوبة.
في كنيسة سيّدة الزرع في الجامعة الأنطونية، قدّمت العازفتان المجموعة الأولى من سوناتات أربع، تليها المجموعة الثانية في كنيسة القديس يوسف، والثالثة في كنيسة مار الياس في القنطاري. هذه الرسائل كما شئت أن أقرأها، وحّدت مهارة الإلقاء الموسيقي. فرهان كلٍّ من فرنشيسكا ديغو على الكمان وفرنشيسكا ليوناردي على البيانو، بدا واضحاً في إفعام كل حركة بنيات ناطقة بالسكينة والتوازن، حتى إذا بالغت القوس في الأداجيو في بثها المشاعر، كانت الملامس تتلقّاه برهافة حتى يبقى الجو منزّهاً عن العواطف الهزيلة. لذا تمكن الثنائي من التعبير بشغف محتشم لا تشوبه انفعالات رومنطيقيّة لا تتجاوب مع عظمة بيتهوفن، بالرغم من أننا في قرارة نفسنا كنا في انتظار في كل حزة قوس على الوتر شهادة حياة من الذي كتب نشيد الفرح في السمفونية التاسعة فيما كان يعاني من تراجيديا صممه. كنا في انتظار بوح حميم يعرّي كبرياءه. سوناتا “كرويزر” الموضوعة في الفصل الأخير من هذه الاحتفالية لا بد أن تفي بهذا الشعور، بمقارنتها بالقائمة التي أعطيت في الأمسية الأولى في الجامعة الأنطونيّة. الثنائي وإن خرق في عزفه حميمية بيتهوفن، غير أن طبيعة كل سوناتا كانت أكثر ميلاً إلى “الألليغرو” حتى في إلقائهما شمساً ولو خجولة على “أداجيو” موشح بالحنين.
السوناتا الأخيرة كانت كذوبان السكر في الماء. عازفتان في عمر الحلم والحب، دخلتا عالم بيتهوفن بلهب عجيب، ولا سيما في الحركة الأولى. التفاهم بينهما صارخ، يجمع بين تقنية هائلة موحّدة وتمازج مذهل في إظهار عبقرية النغم لديه، إن بملامسة الملامس بخفة، أو بالتنويع في قشعريرات الكمان. الأداجيو الذي انتظرنا دخوله بين كل الليغرو، سمعناه على رأس القوس حاملاً رسالة أمل وسلام.
النهار
الرئيسية | إعلام و ثقافة | الجامعة الأنطونية استهلّت موسمها الموسيقي بسوناتات بيتهوفن الكاملة حوار متسامٍ بروح الموسيقيّ العالية بين الكمان والبيانو