تجاوزت الجرائم التي تُرتكب في سوريا كلّ ما يمكن أن يتوقّعه عقل بشريّ من فظائع وأهوال. ولا ريب في أنّنا بتنا في شرقنا البائس معتادون على التعايش مع هذا الواقع الذي ينحدر بنا إلى قاع الجحيم. وهنا الفظاعة الكبرى أن نقبل ما يجري في ديارنا ونتابع حياتنا اليوميّة وكأن شيئًا لا يحصل، بل أن نبرّر ما يجري بكونه دفاعًا عن قضايا مصيريّة أو حربًا ضدّ الإرهاب. وكأنّ، أيضًا وأيضًا، ثمّة مَن يريد أن يقنعنا بأنّ الأرهاب يقضى عليه بإرهاب مقابل.
أبدعت خيالات الفنّانين والأدباء والشعراء الخصبة في تصوير الجحيم في لوحاتهم وكتاباتهم. كما وصفت النصوص الدينيّة وصفًا مهولاً الجحيم ونارها ودودها وأفاعيها، وصوّر رسامو الأيقونات والجداريّات الجحيم وما فيها من عذابات لا تطاق. ولكن ليس ثمّة مَن بلغ خياله مستوًى من الإبداع في تصوير الجحيم قدر ما بلغه المجرمون في سوريا، الآتون من كلّ حدب وصوب، في جعل سوريا، في الواقع لا في الخيال، جحيمًا حقيقيًّا يفوق أيّ جحيم متخيّل.
هذا الجحيم ما كنّا بلغنا إليه لو لم نقبل الفظائع التي ارتُكبت على مرّ سنوات. ما يجري اليوم هو حصيلة سنوات من صمتنا عن ارتكابات الأنظمة الديكتاتوريّة والأحزاب الشموليّة من “علمانيّة” أو “دينيّة” أو “طائفيّة”، وحصيلة سنوات من غضّ النظر عن حروب تُشنّ باسم الله أو باسم الشريعة أو باسم الدفاع عن هذه الأقلّيّة أو تلك. كلّنا شركاء في تغذية هذه الجحيم المستعرة.
هذا الجحيم ما كنّا بلغنا إليه لو لم نبرّر أعمال الذبح والتقتيل والتهجير والقصف بالبراميل… فمَن يعتَدْ على تبرير جريمة واحدة يعتَدْ على تبرير الجرائم كلّها. لقد أدمنّا على الجريمة، فبتنا بلا إحساس. والخطيئة، كما يعرّفها أحد آباء الكنيسة الشرقيّة القدّيس إسحق السريانيّ (القرن السابع الميلاديّ)، هي “عدم الإحساس”. وهنا أيضًا يحضرنا قول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397): “مَن يصمت عن نصرة المظلوم يكون شريكًا للظالم”.
فكيف لـمَن يصلي ويصوم ويذكر الله يوميًّا أن يظلّ صامتًا، كي لا نقول متواطئًا، وهو يرى الناس تموت جوعًا أمامه؟ “أرأيتَ الذي يكذّب بالدين. فذلك الذي يدعّ اليتيم. ولا يحضّ على طعام المسكين. فويل للمصلّين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون” (سورة الماعون).
الجحيم حضرت إلينا. لسنا بحاجة لأن ننتظر نهاية العالم لنذهب إليها. لقد جلبناها إلى ههنا قبل أوانها. وكان بمقدورنا، لو شئنا، أن نأتي بالفردوس إلى عالمنا الحاضر وألاّ ننتظر مجيئه في اليوم الأخير. فضّلنا الجحيم على الفردوس. وها نحن تأكلنا النار، ويهلكنا الجوع، ويزلزلنا البرد، ويميتنا القهر…
لقد رأينا هياكل عظميّة تمشي متأرجحة ما بين الحياة والموت. رأينا هياكل عظميّة من دون لحم يكسوها جلد جافّ. رأينا هياكل عظميّة ذات عيون جاحظة رافضة للموت تحمل بريقًا من الأمل والرجاء. هذا القبس من النور سوف يعيد الحياة لهذه العظام قبل أن تصبح رميمًا. لا يمكن أحدًا أن يطفئ البريق الرائع في هذه العيون التائقة إلى الحياة. هذه العيون ستطفئ سعير الجحيم السوريّة.
ليبانون فايلز