واللاهوتيّة والجمالية، فذلك أصعب وأشمل من أن أناله في كلمات ودقائق معدودة، لذلك سأقتصر على تحديد مقتضب لسرّ الإيقونة، أنطلق بعدها لعرض وجهة نظري في من هو صاحب “الأكاثِسْتُسْ ” أي المدائح، موضوع هذا الكتاب واللقاء، وهي تصديق لما توصّل إليه معلّمي وأبي في الرهبانيّة الباسيليّة الشويريّة، الطيّب الذّكر الأب نقولا قادري، المتخصّص الأوحد، محلّيًا، في رومانُس المرنّم وشعره؛ وأنهي ببعض الهواجس والآفاق.
* * *
انطلاقتي تبدأ من الفكرة التالية:
(الإنسان وحده، المصنوع على صورة الله ومثاله، يحب الحقيقة، يعشق الخير ويعبد القداسة ويهوى الجمال).
نعم بهذا المعنى أفهم الشعر في الصلاة وفي العاطفة الدينية الملأى بأحاسيس الحياة؛ ومع توالي الزمن، تيقّنت، مع المطران يوسف ريَّا، أنه حيث الحياة فهناك الشعر، وحيث الشعر، فهناك الحياة، والموسيقى والتصوير…. فاللاهوت والشعر والموسيقى وكتابة الإيقونة ما هي إلاَّ لوحات تعبيرية لإلهام واحد وفكرة واحدة، تكمّل الواحدة الأخرى.
فما يقوله اللاهوت (يوحنا الإنجيلي – غريغوريوس النزينزي- يوحنّا الدمشقي) مثلاً، يتغنّى به الشعراء الملهمون (أفرام السرياني – قزما المنشئ – رومانس المرنّم)، وما لا يقدر أن يعبّر عنه الشعر تغنّيه الموسيقى (سكالاريزيس – متري المر – الآباء: جبرائيل أبي شديد – يوسف نخلة – أنطون هبّي)، ويرقص به الفنّان بحركات صامتة (أندره روبلوف الروسي – آل يوسف المصوّر الحلبي – الأب كيرلّس بيطار الشويري الدمشقي – ميخائيل مهنّا القدسي)…
فالجسم المصلّي ينتشي بكل أحاسيسه: الكلمة بالنطق، والنغمة بالسماع، والإيقونة (الإنجيل المرئي)بالرؤية المتجلّية؛ وهذه، كلُّها، تجعل المؤمن يتأمّل بقلبه ويُشرق بالبهاء الربّاني.
من هذا المنطلق، يختار اللاهوتي الروسي بول إفذوكيموف عنواناً لكتابه عن فن الإيقونة، فيسمّيه: “لاهوت الإيقونة لاهوت الجمال”؛
وعلى هذا أُضيف:
لأن الجماليّة الحقّة والهالة القدسيّة، هي، حتمًا، الغاية المبتغاة من هذا الفن المميَّز.
فمن يرافق نصّ هذا الكتاب، من خلال إيقوناته، يلاحظ أنّه وُضع ليسير في فلك هذه الفكرة، لا بل إن إنتقاء هذه الإيقونات، من مجموعة تراثنا الرومي الملكي، كان انطلاقًا من هذه الفكرة.
أمَّا هذه الإيقونات، على وجه التحديد، فهي ولا شكّ محليّة، ذات طابع خاص، تجمع في تكاوين مواضيعها، بعض ما نراه جميلًا في كنيستنا الأنطاكية.
لقد حاولنا، قدر المستطاع، أن نقطف من كل حديقة زهرة، من الكراسي البطريركية في دمشق والقاهرة والقدس، ومن بعض المطرانيات والكنائس والأديار، فجمعنا القديم منها إلى الجديد، وما كُتب على الخشب إلى ما رُسم على الجداريات ونُقش بالحفر، وضممناها إلى بعضها، كباقة متنوعة الأشكال والألوان، تتطابق مع مواضيع أقسام بيوت “المدائح”، بحسب تسلسل مجريات هذه الملحمة، التي تعتبر من بديعيّات الفن المقدّس.
* * *
في كتابه “لبنان إن حكى” سطّر عبقري لبنان سعيد عقل فصلًا، بعنوان: “يرفع الأرض إلى السماء”، ويدور موضوعه حول “مدائح العذراء” في الطقس البيزنطي؛ وهذا الفصل هو عبارة عن حديث دار، عشيّة يوم، بين الصديقين الكلفين بالأدب الإغريقي: مؤلّف الكتاب، والأب نقولا قادري الباسيلي الشويري الزحلاوي، وفيه يقول:
“في عشيّة من عشايا الربيع كان راهب وشاعر مكبّين على نص يوناني هو “مدائح العذراء” أو، على الأشهر، “المدائح” وكفى. قصائد على كل شفة ينشدها أبناء الليتورجيا البيزنطية كل مساء جمعة في آونة الصيام.
تعرف يا أبتِ؟ أنني أُعدُّ المدائح أجمل شعر أطلعه قلم.
وتتهلّل أسارير الراهب. فيكمل الشاعر:
في ذهني، وأنا أُطلق هذا الحكم، أروعُ تُحف الدنيا:
(ويسرد ملاحم شعراء اليونان وبعض “مزامير داود و”نشيد الأناشيد” و”الكوميديا الإلهية” لدانتي، و”حلم ليلة صيف” من تُحف شكسبير، ثم “فوست” التي بقي غوتّه يُعمل فيها قلمه مدة ستين سنة…)
ومع هذا تراني عليها جميعًا أوثر “المدائح”. أحفظها عن ظهر قلب بالترجمة العربية، وأتهجّأها مستمتعًا بنغماتها الأنيقة في الأصل الإغريقي.
وسكت الشاعر قليلًا ثم استطرد:
-شعراء الدنيا وموسيقيّوها جميعًا توسّلوا إلى القارئ بالحزن ليحرّكوا نفسه اليابسة… الجرح عندهم وسيلة؛ أمَّا الفرح – الفرح مباشرة – فقلّ من أهل القلم أو الوتر من بنى به وأعلى. بَيْدَ أن الشاعر الإلهي، صاحب “المدائح”، رفع من الفرح كاتدرائية شعر تكاد تحاكي “آجيّا صوفيّا” وتشيل بها على جناحين. كل ذلك إكرامًا للتي، على تواضعها، قالت ذات يوم:
“ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال”.
قال الراهب، وهو عالم هلّيني من طراز جلل:
-ولكن هل تعرف، يا صديقي، ما علاقة “المدائح” بلبنان؟
وتهيّب الشاعر للسؤال. فأكمل الكاهن:
-إسمع. فيما أنا أُنقّب، انتهيت إلى أن “المدائح” هي من صنع رومانُس.
فيقول الشاعر:
ماذا! رومانُس، رومانُس المرنّم، ابن المقاطعة المعروفة بـــــ “فينيقية اللبنانية” وتلميذ مدرسة بيروت، هو صاحب “المدائح”؟
نعم، قال الراهب العالم، هو صاحب المدائح. وما أدري أفي بيروت وضعها أم في القسطنطينية. لكنني أملك الحجة المادية على أنّها له.
كشفت حروف اسمه مبثوثة في مستهلّ الكلمات الأولى من مقطوعات نشيده.
هذا ما دار في تلك العشيّة بين الصديقين الكَلِفَيْن بالأدب الإغريقي. وكان ذلك في ديرٍ من أديار الرهبنة الشويرية في الجبل. أي دير مار يوحنا. ثم تأتِ بقية الفصل.
* * *
وقبل أن أترك الكلام، أودّ أن أبثّكم بعضًا من هواجسي من هذا القبيل:
في شرقنا المعذَّب، المتأرجح بين الحروب والأزمات، لم يحفظ التاريخ لنا، خصوصًا بعد أحداث1860، وبالأمس في لبنان واليوم في سورية، إلاَّ القليل من الإيقونات الهامة التي تنتمي، بنوعٍ خاصٍّ، إلى المدارس الحلبية أو المحلية، أو إلى ميخائيل بوليخرونيس، فكان أن استُعيض عنها بأخرى جديدة من نتاج محلّي معروف، وهي تنتمي، بمجملها، إلى مدرسة أورشليم الشهيرة، الغزيرة الإنتاج، وقد كُتبت بيد أشهر رسّاميها، الذين منهم: ميخائيل مهنّا القدسي، يوحنا صليبا الأورشليمي ونيقولا تيودوري وابنه إسحق، وقد أغنوا الكنائس والأديار والبيوت التقية بنتاجهم، وذلك خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إلاَّ أنه، بنتيجة الجهل والطمع وغيرها من الأسباب المأساوية، امتدت إليها الأيادي السود فشوَّهت معالم بعضها، بقصد الترميم غير المكلف، وأُتلف البعض الآخر منها بحجة التجديد المزيّف، وبيع ما سلم منها، لغاية في نفس يعقوب، لقاء حفنةٍ من المال، أو أُهديت لأن فلانًا وجيهًا يجب إكرامه، أو آخر استحلى مكانها، على ذوقه، ما رآه مناسبًا، بنظره، لتخليد ذكره؛ فاحتلت هذه التقادم مكان تلك، وهي، بمجملها، بشعة، أقلُّ ما يقال فيها: إنها لا تمتّ إلى الحسّ الجمالي والذوق الأنيق بصلة، وهي أقرب إلى (الصنميّة) في المفهوم العبادي، منها إلى التقوى الجذّابة والقربى الحسنة من الله.
إن في هذا الأمر ما يستحق صحوة الروح والفكر والضمير عند الإكليروس والرهبنات، أوّلًا، ومن ثمّ لدى المؤمنين وأصحاب الاختصاص، لمزيد من الإصلاح الليترجي والفنّي للمحافظة على هذا الإرث المحلّي، الذي يساهم في إذكاء جانب كبير منه، الاطّلاع، عن كثب، على هذا الكتاب الثمين والشيّق في آن.
فلصاحب الغبطة عظيم الامتنان والافتخار،
ولمعدّي الكتاب جزيل الشكر والثناء،
ولكم، أيها الحضور الكرام، أفضل التحية والسلام.