أي لبنان نريد لأجيالنا الصاعدة؟
أن نقول إن اتفاق الطائف لم ينجح بتأمين دولة سيدة حرّة ومستقلة لنا، أو إننا كلبنانيين لم ننجح، بعد 33 عاما على الطائف، باستعادة دولة خسرناها خلال حرب الخمسة عشر سنة، نكون ما زلنا نتحدث فيما هو عرضيّ لأننا، عمليا، وبالعمق، لم نكن، ولغاية 1975، قد نجحنا بإقامة دولة بكل ما للكلمة والمفهوم من معنىً.
لن ندخل في تفاصيل العهود التي مرّت منذ الاستقلال وحسنات وسيئات كل منها إذ إنني أكيد أنه، حتى ولو كان لكل منا قراءة خاصة للماضي، لا بد أننا متّفقون على أن ما وصل إليه الوطن اليوم على يد من نُصّبوا، أو نَصّبوا أنفسهم ولاةً على سياسته الطوائفية كاف لتوحيد رأينا عن الماضي ورؤيتنا لمستقبل يتجاوب مع مَسألتنا الجوهرية: أي لبنان نريد لأجيالنا الصاعدة؟
المواطنة السليمة
أتى في دستورنا الحالي، المادة 1، الفقرة ج:
لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع (المواطنين) دون تمايز أو تفضيل.
ثم أتى في المادة 95 التي باتت أشهر من نار على علم:
وفي المرحلة الانتقالية: أ- تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة . ب- تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفيما يعادل الفئة الأولى وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة.
والعقدة واضحة، ولم تكوَّن اللجنة المنصوص عنها ولا مجلس الشيوخ، وضاعت الأمور في التوقيت وبخاصة في تحديد لأية طائفة تخصص رئاسة مجلس الشيوخ؟
عليه، وانطلاقا من رسالتي الإنسانية، العلمية والفكرية، والتي لا يمكن إخفاء جذورها على حكماءَ الفكر والثقافة، أتقدم، تحت اسم “الجمهورية الخامسة”، باقتراح الحل لمعضلة لبناننا الغالي الذي ندِيَت لحاله جباهنا وصُدمت عقولنا، ودَمَت قلوبنا. إنها سلّة متكاملة من النقاط النهضويَة للفكر الاجتماع-سياسي، والتحسينية لدستورنا الحالي المؤسَّس على اتفاق الطائف والذي لنا، كلبنانيين مسؤولين، كل الحق بأن نعيد النظر بنقاط الخلل فيه وبمكامن الإخلال في تطبيقه، الأمرين اللذين تسببا بتأجيج “الطائفية السياسية” إلى مستويات غير مسبوقة، إلى حد الإجهاز على ما كان متعارف عليه من مواطنة بحدها الأدنى بين المواطنين… وهذه الذِلة هي ما دفع لانتفاضة 17 تشرين الأول على “النظام” والتي أُجهضَت، وتخلّلها نهب أموال الشعب مفقدة إياه كل قدرة على الحراك دافعا به إلى ازديادٍ بالإحباط واليأس، محوِّلةً إياه إلى متسول أو إلى نازح ومهاجر. وأخيرا حدث انفجار بيروت، الذي اهتز له العالم، بقصد إنهاء أسطورة لبنان “الرسالة”، وكادت تكون لولا رحمة الله. وبإذنه تعالى لن نسمح لها بأن تكون لا بل سننطلق منها لننهض بلبنان، كالفنيق، من العيش المشترك إلى “التكاؤن”.
من العيش المشترك إلى “التكاؤن”.
لا، لم تكن ولن تكون أيُّ نهايةٍ لوطن ذكر اسمه واسم أرزه عشرات المرات في كتاب الله، وأعطى للإنسانية العباقرة والعلماء والقديسين، وذلك بفضل الحل الذي نقترحه، فالنهايات هي عند الذين لا يؤمنون بالقيامة وبترابط تاريخ الزمن بالأزل والأبد، وكل ما يلزم هو إعادة قراءة تاريخ لم نكتبه نحن، علّنا نكون، فيما وصلنا إليه اليوم، قد تعلمنا حسن القراءة. “واللي بيلم ما بيخسّر” يقول المثل.
قراءة الجمهورية الخامسة، منذ مرحلة الثمانينات من القرن الماضي وما حدث للبنان فيها من ويلات، لمست بعمق العقل والإيمان، أن المعضلة بالمطلق ليست سوى عدم التمييز بين الجوهر والعرض فيما يخص بناء دولة لبنان، ووضعِ الرؤية المناسبة لها وخريطةِ طريق لتطبيقها وحلّ مستدام لمشاكلها واستعادة مصاف الوطن والمواطنة فيها، لا يجمح فيها القطاع الخاص على القطاع العام. لأن الفلسفة تعلم بأن ميزة “عَرَضي” هي لكل ما هو خاص، وميزة “جوهري” هي لكل ما هو عام، بدءا بالصالح العام الأساس لكرامة الإنسان. وهذا لأن الخاص مبني على (الملكية الخاصة – l’avoir – to have) ومنها العيش المشترك، لا لأن الملك الخاص ينتهي، بل لأن لكل مالك للخاصِّ نهاية، أما الجوهر فمبني على الفعل الكائنة فيه “الأنا” (كأنêtre – to be – )، ومنه “التكاؤن”، أي على إدراك الذات، حسب ما عرّف الله عن نفسه به متوجّها إلى النبي موسى ” أنا هو من هو. أنا الكائن أمس واليوم وغدا”، ما يعني السرمدي المدرك ذاته كل حين والذي لا يحدّه اسم، إذ كلُّ اسم هو ملكية خاصة ويعبُر مع حامله.
ما الذي تقدمه “الجمهورية الخامسة” كحل يتطابق مع ما سبق من خلال نظرية “التكاؤن”؟
إن إدخال مبدأ ” العيش المشترك” في صلب الدستور اللبناني، (المادة الأولى منه، الفقرة ي: لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك)، سمح بأن يسطع مبدءٌ معاكسٌ له تم تسطير ماهيته في كتابنا “الجمهورية الثانية…” الصادر سنة 1987، وهو مبدأ “التكاؤن” عملا بالمقولة الشهيرة: “الضدّ يظهره حسنه الضد”. فإن كانت “الطائفية السياسية” لازمت “العيش المشترك” على مرّ السنين، فكيف نثبتها حرفيا في دستورٍ المطلوب منه هو “إلغاء الطائفية السياسية”؟ وهل يداوى الداء بالداء؟ عليه كان يقتضي لإلغاء الطائفية السياسية عملية فقه عميقة للدين بالمطلق، وبالتالي للأديان السماوية، الأبدية، وتأثير السياسة البشرية “الزمنية” عليها وعلى طوائفها التي هي تعابير عنها،[1] والترقّي بها إلى مبدئ “التكاؤن” الذي فيه جوهر الحلّ للمعضلة ولخريطة طريق التحرّر من آفاتها بفضل ” التمييز والوضوح = Distinction et Clarté ” وبناء لبنان الرسالة الحقيقية في المواطنة والحداثة والسلام المستدام.
الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني
[1] من باب “أنصر أخاك ظالما كان او مظلوما و/أو “أنا وخيي عإبن عمي، وأنا وإبن عمي عالغريب – وغالبا ما يكون الغريب هو الجار”.