خلق الرب الخليقة مستقلة عنه، وبعكس النظرات الحلولية، يصرح الإيمان المسيحي أن هناك فصل جوهري وكياني بين الله والخلائق. أين يظهر تدخل الله الأكبر في التاريخ وفي الخليقة؟ في مداخلات الإنسان ومبادراته.
وأين يظهر الله بشكل واضح في الخليقة وفي الإنسان بشكل خاص؟ عندما نعيش المحبة. فجوهر الله الأعمق والأحقّ هو الحب. “الله محبة” (راجع 1 يو 4، 8 . 16).
المحبة بالنسبة ليسوع لا تشكل فقط كنه العهد القديم، بل هي جوهر العهد الجديد أيضًا، هي “الوصية الجديدة. وإذا ما فكّرنا مليًا، فوصية المحبة إنما هي ملء دعوة الإنسان إلى ما يسميه الآباء اليونان “التأليه” (theōsis).
عندما نحبّ، نفسح المجال للرب في ذواتنا، نسمح له لكي يفيض فينا روحه القدوس (راجع روم 5، 5) الذي هو محبة الآب والابن المتبادلة.
من هنا من الضروري ألا يكون الحب مجرد كلمة فارغة نملأها بما هب ودبّ من خواطرنا وأفكارنا. المحبة الحقة يجب أن تعكس جوهر الله.
يعلمنا الأب فرنسوا فاريون أن في الثالوث القدوس يلتقي الحب والعدالة ويسيران معًا. العدالة لأن كل أقنوم إلهي يريد أن يكون الآخرون. والحب لأن كل أقنوم إلهي يفرغ ذاته لكي يفسح المجال للأقنومين الآخرين.
العدالة هي اسم آخر للاحترام، للانتباه، للنظرة التي تحمي الآخر وتصونه. المحبة هي ضيافة، أي إفساح مجال لكيان الآخر بجانبي وفي كياني.
هذا الحب الإلهي ينعكس في حب المسيحي الملموس، لهذا هناك ترابط وثيق بين الحب العامودي الذي يربطنا بالله والحب الأفقي الذي يربطنا بالقريب.
وبينما كان يمكن أن يظهر حب القريب في العهد القديم ثانويًا، فقد قام يسوع بجعل وصية محبة القريب مثل الذات مطابقة بالأهمية للوصية الأولى، وصية محبة الله. لا بل إن وصية المحبة للقريب باتت وصية يسوع الجديدة: “أعطيكم وصية جديدة: أن يحب بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم” (يو 15، 12).
نصاب بالدوار بسبب متطلبات يسوع هذه! فالرب يطلب منا ألا نحدّ محبتنا لقدرتنا البشرية، بل أن نوسع آفاقها وإشعاعها لكي نقتدي بالله: “كما أنا أحببتكم”.
يتذمر البعض ويقولون: الحياة المسيحية صعبة… أما أنا فأقول: المسيحية ليست صعبة، المسيحية مستحيلة. تعليم يسوع مستحيل. لا يمكننا أن نعيشه بلا نعمة الرب الذي يجعل المستحيل ممكنًا. الحياة المسيحية ليست جهادًا بشريًا بحتًا. الحياة المسيحية هي أن نسمح لله ولنعمته أن تعيشا فينا، أن يضحي الرب حياة حياتنا.
زينيت