ما زال موضوع الفارق بين مفهومي «الحداثة» و «التحديث» يحتاج مسامرةً. ففي العالم العربي خُيّل لكثيرين أن مجرد الأخذ بسبل التحديث كفيل وحده بالدخول إلى أفق الحداثة. ولإزالة ما قد يكون غموضاً في السياق الحالي، نشير إلى أن التحديث يتعلق بالمظاهر التقنية والبنى المادية الخارجية، بينما يتعلق مفهوم الحداثة بأمر الوعي الحديث والقطع مع مفاهيم الماضي وفلسفته، ومهما تعذّر أو اضطرب تعريف الحداثة، فإن الغالبية تتفق على أنها أمر مختلف عن مظاهر التحديث الشكليّ، وان هناك وُجهات جوهرية للحداثة وليس من سبيل وحيد للاقتراب منها.
فارق يمتلك أكبر الضرورات في شطر كبير من العالم العربيّ الذي ظنّ نفسه في قلب الحداثة عند امتلاك أدوات التحديث التقنيّ والماديّ: في مواصلات النقل، وطريقة اللباس، وتحديث بُنى السكن التقليدية وفق آخر الطرز المعمارية وناطحات السحاب، والانغمار بوسائط التواصل الجديدة، وفتح صفحات المطبوعات الضاربة بمعاداتها للحداثة أمام «أشكال» الشعر الحديث (قصيدة النثر اليوم على نطاق واسع)، والقيام بترجمات متخصصة تقنياً – أحياناً انتقائية – للفكر العالميّ، والسفر الدائب للبلدان المتقدّمة، والدراسة العليا في علوم الفيزياء النووية وتصريف الأعمال، واسترجاع مدارس الفن التشكيليّ المعاصر وتقليدها بصورة مُحْكَمة، واستخدام تقنيات السمعيّ – البصريّ بالاستعانة بخبرات عالمية رفيعة…الخ.
ولو تأملنا كل ذلك عن كثب، لوجدنا أن أحدث وسائط النقل كالسيارات زُوّدت بالزجاج الأسود لكي لا يرى أحد النساء في داخلها، وأن المنازل المتشبِّهة بآخر صيحات العمارة ما زالت تشتغل وفق مبدأ عزل الجنسين، وأن وسائط التواصُل الحديثة تحوّلت في أحيان كثيرة إلى تجمعات وديوانيات لأبناء الحيّ والأقرباء وأبناء البلد والقبيلة، وهي تمنح البركة و(اللايكات) لبعضها البعض وفقا لمفهوم مُناقِض جوهرياً لفكرة التواصُل الكونيّ، وأن التشبث بأشكال الشعر الحديث والانفلات عن كل قاعدة صارمة فيه يلازمه، في أوساط ومجلات وشعراء تلك الحداثة الشكلانية، تشبُّث بكل قاعدة اجتماعية وأخلاقية صارمة، وأن قراءة ترجمات الفكر العالميّ تستبعد ما لا يروق لها من هذا الفكر عملياً وتشيح بوجهها عنه، وأن السفر الدائب لأميركا وأوروبا نقل معه، لا العكس، معايير المسافرينوأخلاقياتهم وسلوكهم، مع نقد متواتر لتلك البلدان وإعجاب بها في الوقت نفسه، ما يشكل انفصاما حقيقياً، كما أن الدراسات الأكاديمية العليا لم تَحُلْ دون أن يكون كبار منظري السلفيات والإرهاب من حملة الشهادات العليا من القارة العجوز والجامعات الأميركية، وأخيراً وليس آخراً، فإن التشبث بتيّارات الرسم والنحت و(الأنستاليشن) المعاصرة، لا تبرهن بأنها لا تقوم بمحض تقليد لأساليب تاريخ الفن الأوروبيّ وأشكاله المحايثة، إذ تغيب عنه، مراتٍ ومراتٍ، الأسس الثقافية والتاريخية والمفهومية للفن الحديث والمعاصر ونهج تطوُّره المعقّد.
الدولة العربية حديثة النشوء، سنوات الأربعينيات والخمسينيات، الخارجة من رحم الاستعمار، كانت قد ظنّت أن (تحديث البُني العامة)، كإنشاء الجسور والمدارس والطرق المعبّدة وإشاعة التعليم واستصلاح الأرض.. الخ قادر وحده، بعد عقود من الزمن، على إنتاج (مجتمع حديث). أكثر من خمسين عاماً بعد استقلال العالم العربي، القليل فقط من ذلك بل خلافه.
ما زال الاعتقاد أن التحديث إنما هو الحداثة بعينها شائعاً وراسخاً.
الصورة مُقدّمة هنا بالأسود والأبيض تقريباً، من أجل طرح البون بين مشروع (الحداثة) ومشروع (التحديث)، لكن من أجل القول كذلك إن نخباً عربية، متألقة ومبدعة وشجاعة، انهمكت وتشبّعت بالمفهوم الجوهريّ للحداثة، وسعت طيلة سنوات أن تُؤسّس له على صعيد الممارسة والإبداع، وإنها جُوبهت، ضمناً، مجابهة بطيئة متواترة، بتثبيت منتجات التحديث بدلاً من نتاجات الحداثة.
شاكر لعيبي
السفير
الوسوم :الحداثة والتحديث