محمد ملص
اسمح لي أيّها المعلم العزيز طلال سلمان؛ ونحن نرتدي الحداد كل يوم؛ في هذا الموت؛ وفي غياب الأفكار والمفاهيم والآمال والأحلام… أن تفاجئنا أنت بغياب «السفير» في هذه الليالي الظلماء. فلم نعد نعثر على عِرقٍ أخضر من «الريحان»؛ لنضعه على هذه الآفاق من الموت؛ في السهول والتلال والبوادي والبحار! أنفتقد «السفير» وهي بعد بهذا العمر؟ ثلاثةٌ وأربعون عاماً فقط! صحيح أنه لم يكن عمراً من الورود؛ وكان عمراً من الأشواك؛ وكانت «السفير» دائماً تشاركنا محاولة اقتلاعها؛ برغم المنع والحجب والإقصاء.
لقد قضينا هذه الثلاثة والأربعين عاماً؛ ونحن نرى فيها كل صباح «مرآة» لما خفي؛ ولما نفكر؛ وما نتمناه؛ لهذا الوطن الذي كنّا نسمّيه «من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر»؛ وكانت ملاذاً وملجأً للعديد من القامات السياسية والثقافية التي وسمت ملامحها ونكهتها ومواقفها في مواجهة كل ما آلم بنا؛ منذ سادس حزيران الأسود 67؛ وحتى اليوم. وما يزيد من حزننا وافتقادنا؛ واحتياجنا لهذه «المرآة»؛ أنها ستختفي في حين تحوّلت تلك الأشواك سكاكين.
لم تكن تلك اللحظة التي حاولوا بها اغتيالك؛ واغتيال «السفير» معك؛ مفاجئة وغير منتظرة؛ بل واحدة من هذه «السكاكين» التي بدأت في الردع وفي التهديد في هذا العالم «العربي» الذي كان يخطو خطوة وراء الأخرى للوصول به إلى ما وصل إليه اليوم. وصحيح أيضاً أن تلك المحاولة؛ لم تكن إلا «واحدة»؛ من لحظات كثيرة مرعبة ومخيفة؛ لكنْ كان لها طعم خاص؛ لكونها تشير إلى الدور السياسي والفكري والثقافي الذي تقوم به «السفير» مع الجيل الشاب؛ ـ ليس مع جيل «الآباء» فقط ـ في هذه المواجهة خلال هذه السنوات؛ فقد جعلتها أنت وكل تلك القامات السياسية والثقافية التي عملت وتعمل حتى اليوم منارة متجددة واستطعتم أن تجعلوها فعلاً: «صوت من لا صوت لهم». إضافة لذلك كله؛ تبدو «السفير» بالنسبة لي؛ «كائناً» حقيقياً؛ رافقني خلال عمري السينمائي. فدعني أبُح ماذا فعلت «السفير» بذاتي كسينمائي؛ وربما بالجيل الذي أنتمي له. وليس بالضرورة أن تتذكر أيها المعلّم، ما أريد أن أؤكده لك؛ من ذاك التفصيل الذي لم ولن يختفي من ذاكرتي؛ والذي جرى معي؛ قبل ثلاثة وأربعين عاماً من عمر «السفير».
يومها ونحن نلملم أحوالنا ونستعدّ للعودة إلى بلداننا بعد سنوات عديدة من الدراسة؛ في الغرفة التي كنت أتقاسم العيش فيها والصديق صنع الله إبراهيم؛ في بيت الطلبة الخاص بمعهد السينما في موسكو. فقد دخلت الغرفة في ذاك المساء؛ ففوجئت أن في ضيافة صنع الله؛ شاب «منتصب القامة»؛ عروبي الملامح واللسان؛ تتدفق من ماء عينيه الحزينتين الطموحات؛ وتتناثر من حوله الآمال؛ وهو يعرض لمضيفه طموحاته الصحافية.
في مصافحته يومها؛ شعرت بدفء وقوة؛ تؤكد ما تلمسته في ملامحه. كان لحظتها على وشك المغادرة؛ في برنامج كثيف لزيارة قصيرة إلى موسكو. وبعد مغادرته؛ أعلمني صنع الله أنه صديقه؛ صحافي لبناني اسمه طلال سلمان. وأنه في زيارته يسعى لحشد الدعم والتعاون؛ لحمل الرسالة التي يريدها لصحيفته «السفير»؛ التي لم يصدر منها بعد ثلاثة أو أربعة أعداد. بدت لي هذه اللحظة العابرة؛ بالمجيء لبيت الطلبة في تلك الأصقاع البعيدة؛ بزيارة قصيرة؛ ليخصّ بها واحداً من مسجوني أو مهاجري أو مطرودي بلدانهم؛ ودعوته لهم ليشاركوه؛ منذ الأيام الأولى لإصداره «السفير»؛ بأنها ترسم ملامح ما سيكون عليه ذاك «السفير». وكالعادة (صنع الله) وأنا؛ في ليل ذاك المساء؛ لم يفارقنا الحديث عما تركته هذه الزيارة؛ في نفسه؛ وعلقنا مطولاً بين المزاح والجد عما يريده طلال سلمان لسفيره. وتناثرت الأحلام والآمال في فضاء تلك الغرفة.
لقد انسكب في داخلي ذاك الشعار الجميل الذي ردّده طلال بأنها ستكون: «صوت الذين لا صوت لهم». ووقعت في شرك هذا النداء؛ ولم يغادرني لا يومها ولا في ما تلاه من أيام حياتي في السينما. فبعد أيام قليلة لذاك اللقاء «الموسكوفي»؛ غادرتُ موسكو كمخرج سينمائي؛ وقد قررت لنفسي أن أكون سينمائياً لـ «صورة الذين لا صورة لهم».
(مخرج سينمائي سوري)
الوسوم :الحداد الذي لا نستحقه!