واصل المركز الدولي لعلوم الانسان في جبيل التابع للاونيسكو مؤتمره الشبابي لليوم الثاني على التوالي حول “دور وسائل الاعلام حيال الواقع الطائفي في لبنان، فانعقدت الحلقة الثالثة بعنوان: “الاعلام ومساحات التقاء الاديان والثقافات الدينية”، وترأستها المحامية غادة ابراهيم، وحاضر فيها كل من مديرة “الوكالة الوطنية للاعلام” السيدة لور سليمان صعب، الامين العام للجنة الحوار الاسلامي – المسيحي وأحد مؤسسيها الدكتور محمد السماك والصحافي سعيد الغريب، في حضور حشد من المفكرين والاكاديميين والمحامين والجامعيين.
ابراهيم
استهلت الجلسة بكلمة للمحامية ابراهيم أشارت فيها الى ان “اعلام الانارة زال لمصلحة اعلام الاثارة حيث لا رسالة له سوى القدح والذم بالآخر في مقدمات نشرات الاخبار ولا هدف له سوى رضى القيمين عليه على حساب المصداقية والشفافية والالتزام المهني”. وسألت عن “الثقافة التي يحملها اعلامنا وعما اذا كان هناك من أمل بمساحة التقاء بين الطوائف وقبله هل من مساحة لالتقاء الثقافات الدينية؟”.
وأضافت:”لنتفق أولا أننا لا نتحدث عن اديان والا لما كان اختلاف وهذا فيه اجماع والا لما كان اختلاف او خلاف ، في الاديان مجموعة من القيم الانسانية، وانا شخصيا اعتبر ما هو جدير بالتقديس وليس بالعبادة هو القيم وليس مصدرها ، وان تجسيد هذه القيم في اسلوب الحياة هو العبادة ، فالثقافة ليست معارف مكدسة وليست مراجع مرقمة والثقافة الدينية هي فعل ايمان بالاديان التي أتت بها. وسألت:”أليست الحضارة نتاج الفكر وتطبيقاته؟ فأين اعلامنا من ثقافة الاديان؟ واذا كان الاعلام الخاص اعلام تفرقة بين الطوائف فهل يشكل تلفزيون لبنان المتواضع او الفقير لله مساحة لالتقاء الثقافات الدينية؟”.
ولفتت الى ان “الوكالة الوطنية للاعلام تعتبر العلامة المضيئة في سلامنا الاعلامي بعد تجريد تلفزيون لبنان من مقوماته”.
سليمان
وتحدثت مديرة “الوكالة الوطنية للاعلام” السيدة لور سليمان صعب، مستهلة، بالتوجه الى المشاركين،قائلة :”الإعلام ومساحات التقاء الأديان والثقافات الدينية”، عنوان اخترتموه ليكون عنوانا لندوتنا اليوم، ولكن يجب في البداية التمييز بين الإعلام والثقافة من جهة، وبين الإعلام والتاريخ من جهة ثانية. فبينما يعمل الإعلام على الآني ليصنع رأيا عاما، يعمل الدين والثقافة على الخالد ليتفرغا لتشكيل الذوق العام والسمو بمستوى التلقي. ولذلك، فالإعلام مطالب بالسرعة في المواكبة وإلا تقادمت أحداثه ومواضيعه وأحيلت على التاريخ الذي يتروى في دراساته إلى حين انطفاء الهياج الذي يرافق عادة الأحداث واتضاح مسار الأمور. عليه، يصبح دور الإعلام، مقارنة مع الثقافة والدين والتاريخ، هو دور المواكبة والاسراع في المعالجة”.
وأضافت:”قد يتساءل البعض وللوهلة الاولى ما هي علاقة الاعلام بالدين، نقول ان رسل السيد المسيح كانوا اول الاعلاميين الذين حملوا كلمة الله ونشروها في العالم اجمع، اما ما هي علاقة الاديان والثقافات الدينية بالاعلام وكيف للاعلام ان يتدخل في الشاردة والواردة وحتى في شؤون الديانات والحوار في ما بينها؟ نقول:” نعم ايها السادة ان للاعلام دورا فاعلا في هذا الموضوع، بعدما باتت تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام الجديدة، تشكل قوة جديدة لا يستهان بها، فهذه الوسائل أدت بالفعل لإحداث تحولات وتغيرات جذرية متسارعة في كل مجالات الحياة، وأصبحت من أسهل وأسرع الوسائل وأقربها استجابة وارتباطا بحياة الأفراد، وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، التي انتشرت في الآونة الأخيرة، وأصبحت مصدرا لتلقي الأخبار والمعلومات، ومكانا غير مباشر للحوار، فمثلا نرى ان شخصا يتحدث الى شخص آخر قد يكون من غير دينه عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويبني علاقة اجتماعية معه، ويتناقشان بطريقة غير مباشرة في شؤون الدين والسياسة والثقافة وغيرها من المواضيع”.
وتابعت:”لقد استطاعت تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام الحديثة، مثل الهواتف الجوالة والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة مثل “فيس بوك” و”تويتر” و”يوتيوب” وغيرها، أن تصبح منابر إعلامية جديدة، لإحداث تغييرات وتحولات جذرية كثيرة، وبخاصة في المجالات السياسية، في الكثير من المجتمعات والدول حول العالم، حيث تعد حاليا من أسرع وسائل الاتصال تطورا ونموا، لخلق وتشكيل تواصل فعال بين الكثير من الأفراد حول العالم، ويرجع ذلك للكثير من الخصائص والمميزات التي تتمتع بها هذه الوسائل الجديدة، وتكسبها دينامية حراك فريدة وجديدة. ولكن السؤال المهم المطروح، هو: كيف يمكن أن نستفيد بفعالية من الآفاق الواعدة لتكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام الجديدة في كل مجالات التنمية وجوانب الحياة، للنهوض بالأفراد والمجتمع؟ بمعنى آخر كيف يمكن الاستفادة من استخداماتها في المجالات السياسية، والانتقال بها لاستثمارها في كل المجالات التنموية في المجتمع، من علمية ودينية وأخلاقية وتربوية واجتماعية وأمنية ومرورية واقتصادية، على سبيل المثال، استخدامها في تغيير اتجاهات ومفاهيم الأفراد الخاطئة نحو موضوع ما أو تجاه قضية ما، أو تشجيع وتعزيز قيم وأخلاقيات إيجابية مثل التسامح والتصالح والإيثار والحب والإخاء والنظام والنظافة والتعاون والعمل بروح الفريق المتضامن…، وغيرها من قيم وأخلاقيات إنسانية واجتماعية نبيلة تسهم في مجموعها في تقدم ونهوض الأفراد والمجتمع”.
وتابعت:”والسؤال الآخر الأكثر أهمية، هو: ما الضوابط والتشريعات والقوانين الضابطة، التي يمكن وضعها لوسائل الإعلام الجديدة وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، لتقنين المسؤوليات والحقوق وحماية مساحة الحرية الممنوحة لها، ولضمان الاستخدام الجيد لهذه الوسائل، وعدم انحرافها عن الطريق الصحيح؟ ويرى الخبير الفرنسي، ايف رونار، مدير تنمية التعاون الدولي في معهد الصحافة في ليل (شمال فرنسا)، ان أنجع السبل لإقامة جسور تعاون بين الإعلاميين في العالمين الغربي والإسلامي، تكمن في التركيز على”الجانب العلمي والواقع اليومي لحياة الناس التي يعالجها الإعلاميون. ويعتبر رونار أن أداء الإعلامي هو إلى حد كبير انعكاس لمجتمعه أو فئات من المجتمع. إذ لا يمكن للصحافي أو وسيلة الإعلام أن يكون ضد جمهوره. لكن يتعين الاجتهاد من أجل البحث عن المشترك مع الثقافات الأخرى من خلال بلورة نماذج عملية وواقعية تشجع الحوار والتفاهم”.
وقالت:”هناك وجهات نظر مختلفة بين الاعلام العربي والاعلام الاوروبي فمثلا قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد وفيلم “براءة المسلمين” الذي أنتج في أميركا وأثار ردود فعل غاضبة في لبنان وفي العالم الإسلامي، يعتبره إعلاميون في العالم الإسلامي “مسا بالمقدسات” في حين يتعامل معه إعلاميون آخرون في دول أوروبية باعتباره قضية تتعلق ب “حرية التعبير والفن”. وعلى الرغم من إقرار الجانبين من إعلاميي العالمين الغربي والإسلامي بوجود مبالغات وأحكام مسبقة وتصورات سلبية عن الآخر، فإن الخلاف قائم في النظرة لدى الجانبين، وحتى في داخل المؤسسات الإعلامية نفسها، حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه حرية التعبير وتناول القضايا الحساسة في الأديان والثقافات الأخرى”.
وتابعت:”اليوم يشهد العالم عددا من المبادرات في مجال حوار الاديان ولاسيما وسط ما يحصل في العراق وسوريا من اعمال عنف تحت اسم الدين، لكن هذه الحوارات لا يمكن ان تؤتي ثمارها من دون الاعلام كأحد اعمدة الحوار في عالم اليوم. لكن الآلة الإعلامية للحوار مازالت تتعثر بسبب الخلط والتشابك بين الاعلام والسياسة وتوظيف حوار الاديان لخدمة الاهداف السياسية وبقاء حوار الاديان حبيس الغرف في المؤتمرات والندوات واصبح الحديث عن حوار الاديان ينتهي بمجرد نهاية تلك الفعاليات”.
وقالت:”بما ان الصحافة هي رسالة قبل ان تكون مهنة على كل اعلامي ان يتجرد من كل الميول الدينية والسياسية ويلتزم الموضوعية حتى يتمكن الاعلام من اداء رسالته في نشر الوعي والتقاء الثقافات الدينية، نقترح: إنشاء شبكات للتواصل بين الإعلاميين من مختلف الاديان والمناطق، لان الفرز المناطقي يؤثر سلبا على الحوار والتفاعل، وضع إجراءات محددة وقواعد صارمة لمنع الإساءة للمعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية للآخر، تكثيف البرامج الإذاعية والمرئية والتحقيقات الصحافية، بما يزيل الرواسب التي علقت في أذهان البعض عن الصور الحقيقية للأديان، تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والتمييز بين حرية التعبير والإساءة للأديان، خلق آليات جديدة من التواصل بين الإعلاميين المسيحيين والمسلمين، التعريف بالروح السمحة للأديان، تعميم ثقافة الحوار وأدبياته على مواقع الإعلام الاجتماعي وتوجيه الإعلام الديني بخاصة إلى قضايا الحوار ومشتركاته الوطنية والإنسانية، ضرورة التعارف والتعاون لمواجهة القضايا الشائكة التي يعاني منها المسيحيون إزاء المخاوف وتحديات الهجرة المسيحية وحض وسائل الاعلام على مكافحة كل أشكال التمييز العنصري والديني والمظالم والمهانات التي يتعرض لها الإنسان بسبب انتمائه العرقي والديني”.
السماك
وكانت مداخلة للسماك قال فيها:” تتطلب معالجة الموضوع، التوقف أمام أمور ثلاثة:
طبيعة دور وسائل الاعلام، صورة الواقع الطائفي في لبنان والتداخل بين الدور والواقع. من يؤثر في الآخر، وكيف؟”.
وأضاف:” في دور وسائل الاعلام: ليس صحيحا أن دور وسائل الاعلام هو دور تعريفي بما يحدث . ولا هو دور تعبيري عن الموقف مما يحدث . فقد تجاور دور الاعلام ذلك الى ما هو أهم. أصبح دورا تربويا. فالاعلام اليوم لا يعبر عن خياراتنا بل انه يصنعها. وهو لا يعكس آراءنا، بل انه يكونها. يستمد الاعلام مغزاه وأهميته من الحاجة اليه. ليس فقط لأغراض اعلامية مجردة، انما لأغراض تربوية تتضمن معنى ضبط السلوك وتربية الناس، أو اعادة تربيتهم، تآلفا أو تنافرا. وكلما توسعت اشكال التواصل الاعلامي وتطورت تتخذ مناهج التربية الاجتماعية لنفسها عبر الاعلام ابعادا جديدة، أعمق أثرا.
وتابع:”ان الاعلام بكل فروعه وأنواعه هو وسيلة من وسائل الاتصال والتواصل، لذلك فهو يقع في القلب من كل مجتمع. ان تأثيره على العقول بلغ شأنا عظيما في المجتمعات الحديثة حتى انه يصعب بل يستحيل انكار الحقيقة الآتية. وهي أن الاعلام يؤثر في تحديد الخيارات الشعبية العامة، ويعيد ترتيب سلم الأولويات الاجتماعية، ويصنع قناعات ويفرز معسكرات ويرسم مواقف متباينة داخل المجتمع الواحد”.
وقال:”قبل عملية الاقتحام الناجحة التي قامت بها التلفزة للبيوت، وحتى لغرف النوم، كانت قاعدة التربية ثلاثية الزوايا: البيت والمدرسة والكنيسة أو المسجد . وبشيء من الخجل شكل الاعلام المكتوب (الصحف والمجلات) الزاوية الرابعة. الا انه مع التلفزة ربما يحتل الاعلام الآن الركن الأول والأشد فعالية والأعمق أثرا، والأوسع انتشارا والأسهل تناولا. اثبتت التجربة ان التربية عبر الحواس هي أكثر اثارة من التربية الاجتماعية عبر العقل. تحدد المسافة بين نسقي التربية برودة الكتاب وحرارة جهاز التلفزة . الكتاب متعب ، ومرهق للعقل. بينما تقدم التلفزة مادتها التربوية بتشويق وبسرعة ، ودون أن يتطلب ذلك أي جهد للتعمق أو حتى للاستيعاب. ذلك ان النص المكتوب مثير للجدل ويمكن العودة اليه للمناقشة والنقد . اما النص المتلفز فانه يقدم المادة كمعطى نهائي دون أن يترك أي مجال للمراجعة أو للتحقق . وعندما نعرف ان التلفزة تستقطب 85 بالمئة من جمهرة الناس ، ندرك عمق تأثيرها على التربية الاجتماعية ، وبالتالي على الثقافة الوطنية”.
وأضاف:” في الأساس يمكن تعريف المنهج التربوي -أي منهج- بأنه نظام السيطرة على الناشئة. ان كل نظام اعلامي مبني بصورة خاصة بحيث يؤثر على عقول الناشئة وأخلاقها ويهدف الى تعليمها وتدريبها وعلى خلق قناعات ثابتة لديها. لذلك يشكل الاعلام في ذاته منهجا تربويا متكاملا من حيث انه نظام للتعليم والتربية والتوجيه”.
وأضاف:” في صورة الواقع الطائفي في لبنان: اسمحوا لي أن اقدم نصين يرسمان هذه الصورة، والنصان ليسا لي. الأول هو لقس انجيلي يدعو طومسون وقد أورده في كتابه له عنوانه “الأرض والكتاب” صدر في لندن عام 1870 . يقول النص :
” يسكن في لبنان 400 الف نسمة موزعين على ستمئة مدينة وقرية ودسكرة ، ومع ان الطوائف المتنوعة تتعايش معاً ، ويمارس معتنقوها خرافاتهم المتعارضة في اماكن مغلقة ، غير أن الشعب لم ينصهر في مجتمع متجانس ، كما ان أياً منهم لا ينظر الى الآخر نظرة أخوية ذات مصلحة مشتركة ، فالسنة يحرمون الشيعة . والاثنان يكرهان الدروز . والثلاثة يبغضون النصيرية (أي العلويين). وليست للموارنة محبة خاصة لأي من الآخرين ، علماً بأن الجماعات الأخرى تبادلهم الكراهية ، والارثوذكس لا يطيقون الروم الكاثوليك ، والكل بالطبع يكره اليهود”. أما النص الثاني فهو لقنصل فرنسي كان معتمدا في لبنان وسوريا في عام 1856 ويدعى بلونش. وقد ورد نصه في مذكرة دبلوماسية بعث بها الى وزارة الخارجية الفرنسية يصف فيها صورة المجتمع اللبناني في ذلك الوقت . يقول النص: “الحقيقة الكبرى والأبرز التي تحضر في أثناء دراسة هذه البلدان هي المكانة التي يحتلها الفكر الديني في أذهان الناس والسلطة العليا التي يشكلها في حياتهم . فالدين يظهر حيث كان ، وهو بارز في كل المجتمع الشرقي ، في الأخلاق وفي اللغة والأدب وفي المؤسسات .. وترى أثره في كل الأبواب .. الشرقي لا ينتمي الى وطن حيث ولد ، الشرقي ليس له وطن ، والفكرة المعبرة عن هذه الكلمة ، أي عن كلمة وطن، أو بالاحرى عن الشعور الذي توقظه ، غير موجودة في ذهنه ، فالشرقي متعلق بدينه كتعلقنا نحن بوطننا . وأمة الرجل الشرقي هي مجموعة الأفراد الذين يعتنقون المذهب الذي يعتنقه هو ، والذين يمارسون الشعائر ذاتها ، وكل شخص آخر بالنسبة اليه هو غريب ..”.
وتابع:”في التداخل بين الدور والواقع، لقد تغيرت هذه الصورة كما رسمها المبشر البروتستنتي والدبلوماسي الفرنسي . ولكن الاعلام المذهبي والطائفي كثيرا ما عرقل عملية التغيير وعطلها وقليلا ما ساهم في تأصيلها وتعميقها . في كتابه الشهير “المحمول” أو “القاموس الفلسفي المحمول” ، يروي فولتير الحوار التالي بين شخصيتين من الشخصيات التي ابتدعها :يسأل الأول : ما هي أفضل دولة أو ما هي الدولة الأمثل في العالم ؟ يرد الثاني : انها الدولة التي لا يخضع فيها أحد إلا للقانون”. وعلى قاعدة هذا التعريف نعرف لماذا لم ننعم في لبنان لا بالدولة الفضلى ولا بالدولة الأمثل . فالقانون ليس مجرد قصاصات من ورق . انه كائن حي ، له روح . فعندما ينتهك أو عندما يساء استخدامه أو تلوى ذراعه ليخدم هذه الطائفة أو تلك ، فانه يفقد صدقيته ويخسر قوته وتتلاشى قيمته . وأي دولة يفقد قانونها هذه القيم ، لا يمكن أن تكون دولة فاضلة . بل لا يمكن أن تكون دولة .. وهنا يغيب ، أو يغيب ، دور الاعلام – أو معظمه- في بناء دولة القانون وفي توحيد المجتمع على قاعدة قيمية موحدة . وعلى مصالح وطنية مشتركة”.
ولفت إلى أن الإيمان الديني والانتماء المذهبي لعب في الماضي وهو يلعب اليوم -وربما في المستقبل أيضا – عبر وسائل الأعلام المتعددة ، دورا أساسيا في الحياة اللبنانية العامة . وبما ان الاعلام هو من الأدوات الفعالة في الوصول الى عقول الناس وقلوبهم ، فانه مدعو الآن وأكثر من أي وقت مضى الى أن يرتفع في ادائه الى مستوى الرسالة التي يفترض أن يحملها ، أي الى مستوى التحديات التي يواجهها لبنان كوطن للعيش المشترك في مشرق يزداد كل يوم تمزقا وتفتتا وكواحة للحرية في منطقة تكاد تخنقها ثقافة احتكار الحقيقة والغاء الآخر”.
وقال:”في الاعلام ليست الحرية أن تنشر أو أن تبث ما تريد ولكن الحرية هي ان يمارس هذا الحق من يختلف معك في الدين أو المذهب أو الاجتهاد السياسي . والمجتمع المتعدد مذهبيا وطائفيا كالمجتمع اللبناني يحتاج الى اعلام يحترم ثقافة التعدد . خطأ الاعتقاد اننا نستطيع أن نصهر الناس عبر الاعلام أو غيره في بوتقة وطنية واحدة. الناس ليسوا معادن قابلة للانصهار. لقد خلق الله الناس مختلفين وسيبقون مختلفين . فالمشكلة ليست في الاختلاف في حد ذاته ، بل في ثقافة احتكار الحقيقة وعدم احترام الاختلاف ، دينيا كان أو مذهبيا. ان ثقافة احتكار الحقيقة تلغي بالقهر المسافات التي ترسمها الاختلافات بين أهل الأديان والثقافات المتعددة . وهذا الغاء وهمي ، لان الاختلافات تشكل جزءا أساسيا من مكونات شخصية الفرد وهوية الجماعة . وكما يقول فرويد في نظريته حول “نرجسية الاختلاف”، فان الاختلافات مهما كانت ضئيلة أو محدودة ، فاننا نجعل منها أساسا في شخصيتنا وعلى النقيض من ثقافة الاحتكار ، فان ثقافة الاعتراف بالاختلافات واحترام أهلها، يقيم جسورا من التعارف والتعاون والثقة والمحبة . وهي جسور لا يستطيع أي مجتمع متعدد ان يعيش وان يزدهر من دونها. وللاعلام هنا دور مركزي في تسفيه ثقافة الاحتكار ، وفي تعزيز صدقية ثقافة الاعتراف والاحترام المتبادل”.
وختم:”ان الوحدة الوطنية الالغائية للاختلافات، هي وحدة وهمية والوحدة الوهمية هي أسوأ أنواع الانقسام والتشرذم، ولذلك فانها لا يمكن أن تكون وحدة وطنية”.
غريب
وكانت مداخلة لسعيد غريب قال فيها:”يضخ عنوان هذه الندوة مجموعة من القيم دفعة واحدة. فهو يعكس رغبة في صيغة رسولية لدور الاعلام بحيث يكون منصة تظهر قيما كبرى تتمثل في الدين وتنوع الثقافات الدينية وصولا الى الالتقاء بينها برعاية قد اقول طوباوية للاعلام”.
وقال:”من خبرتي ومن قناعاتي الامر ليس مستحيلا لكنه يزداد صعوبة يوما عن يوم. في الواقع، العالم مأزوم ويعمه الاضطراب. ان العودة الى قيم الدين قد تشكل خلاصا. لكنها قد تمسي ايضا معبرا للتعصب الاعمى والوقوع في فخ الانغلاق الطائفي المتشنج. والاستعانة بالاعلام مهمة لكنها قد تؤدي الى السقوط اما في وعظ مسطح واما في تفرقة وفتن. وكأنه قدر للقيم في زمننا هذا ان تصبح سيفا ذا حدين. دعوني ابدأ بالتحديات والصعوبات التي تواجه الطرح المقدم في هذه الندوة، ليس من باب الاحباط ، وهو لا يصيبني انا المؤمن بقيم الدين والانسان والوطن، انما من باب التوصيف المجرد بحثا عن طريق يخرجنا الى الضوء”.
وأضاف:”إن الإعلام اليوم في ثورة تخطت كل الحدود. فهو فضائي قادر على تجاوز الحدود الجغرافية كلها ونقل المفاهيم والآراء على تنوعها. وهو الكتروني بمتناول الجميع بحيث بات كل الافراد اعلاميين قادرين على بث الاخبار والآراء والصور والافلام. لم يعودوا مجرد ملتقطين للرسالة من خلال المكتوب والمقروء والمسموع بل باتوا صناعا لها ومتفاعلين معها. في ظل هذه المتغيرات تفلّت الاعلام من قواعد العمل المهني الصحيح ولم يعد خاضعا لمصفاة تنقي من مواده الشوائب وفق مبادئ اخلاقية تردع اي تأثير مضر في المجتمع. لقد تخطت الساحة الاعلامية عتبة الحرية وها هي اليوم تسقط في الفوضى وتجر معها في ذلك الجماهير العريضة. لقد بات الهاجس اليوم هو تسليط الضوء على من يكسر مزراب العين وليس على من يجر قنوات المياه، وبات البحث عن الاثارة لاستجلاب المشاهدة والاهتمام بعناصر الاختلاف الحادة هو القاعدة التي يروج لها الاعلام للجماهير. صار عاديا ان يكسر اثنان مختلفان انفي بعضهما آخذين في دربهما مدير الحوار ، او يحطما طاولة الحوار الخشبية على رأسي بعضهما وامسى مألوفا التقاذف بالشتائم المبتذلة والتهديدات كما باكواب المياه. واصبح الصراخ بكلام عنيف المضمون ، طائفي النزعة، مهدد ، متوعد ضمن مشهدية تستجلب العنف والتفرقة ورفض الآخر صورة نمطية يبحث عنها الاعلام. سمعت احد الصحافيين المعروفين يقول عن استضافة شخصية مثل فؤاد بطرس انها ما بتبيع. وكأن وسائل الاعلام باتت بازارا مفتوحا لاستجلاب الاعداد بعيدامن اي قواعد مهنية وانسانية ووطنية”.
وقال:” وسط كل هذا، نتباحث في مساحات للقاء الاديان والثقافات الدينية في زمن تعبر فيه الحياة الدينية في مأزق كبير. ان للدين معاني سامية وقيما انسانية واخلاقية كبرى مهما كانت هوية هذا الدين. ويبدو ان سقوط الايديولوجيات في العالم وطغيان المنحى الاستهلاكي على المجتمعات والافراد، خلق نوعا من الارتداد نحو الامان الذي يوفره الايمان الديني. لكن المشكلة الاساسية التي تتخذ اليوم منحى عالميا تكمن في السعي الى تغليب التعصب الديني والمذهبي على القيم الدينية الكبرى. وذلك من خلال الممارسات على الارض من جهة ، ومن خلال الاعلام المتفلت من كل الضوابط. ان المخاطر التي يخشى منها تتلخص في تحول الاعلام الى اثارة الفتن بحجة نقل الواقع والدفاع عن المجموعات المضطهدة، او تسطيح المقاربات ما بين المجموعات المختلفة دينيا سعيا الى توفيق غير موفق بين المعتقدات المتنوعة . ولعل الاخطر يكمن في تسليط بعض الاعلام الضوء على شخصيات ظاهرها ديني ملتزم وباطنها ساع الى التفرقة واشاعة الانقسامات المدمرة بين مختلف الطوائف المكونة للوطن. وكأن ذلك يدخل في جزء من عملية تدمير منهجي لمجتمعاتنا المتنوعة الاديان والمتعددة الثقافات”.
وأضاف:”هذا في المخاطر. اما عن سبل مواجهتها، فاقول ان المطلوب بالدرجة الاولى هو القبول بالتنوع الديني والثقافي في حياتنا المواطنية، اساسا في التعاطي المجتمعي والاستفادة منه حفاظا على اللغة الحضارية المشتركة التي صغناها معا على مدى عقود، وتمسكنا بحتميتها رغم كل الخلافات والاحداث التي عصفت بنا. اما الخطوة الثانية فتكمن في ترجمة الاعلام والاعلاميين لهذا التوجه المواطني في مواجهة الازمات العاصفة والخطيرة التي تحيط بنا وتهدد بنسف حياتنا معا والقضاء على الانجازات الحضارية التي تعاونت كل المجموعات الثقافية والدينية والاجتماعية والمناطقية في تكوينها”.
وتابع:” قد يقال ان ما اطرحه الآن هو مبادئ عامة والعبرة لا تكون الا في التطبيق. فالتنوع في وجهه الآخر سبيل الى الفرقة. والاعلام الذي يفترض به ان يكون مساحة التقاء قادر على التحول في لحظة الفتنة الى مفتعل لها ومشارك فيها. الا ان قضية صناعة السلام بين المكونات المنوعة تستحق ان نلتزم بها ونعمل من اجلها. وواقعنا يفرز مع هذا ايجابيات يجدر التوقف عندها. واقع الحال أن التجربة اللبنانية المتميزة ليست بعيدة من جو التلاقي. وقد تمكن اللبنانيون لسنوات طويلة من بناء صروح من هذا التقارب بين اتباع الديانات والمذاهب المختلفة، في اطار “دولة مدنية تحترم حقوق المواطن” التقت فيها كل الثقافات، واثمرت نجاحات وانجازات على غير صعيد في مراحل متعددة من تاريخنا. فبرهنت ان التقاء الحضارات ممكن رغم الصعوبات وان تصارعها ليس حتميا ولا ممتدا في الزمن. ولعل في التكوين المجتمعي المتنوع الذي يترجمه نظامنا السياسي بوجهه الديموقراطي ما يساعد في تعزيز التوجه نحو جعل الاعلام مساحة لقاء بين المتنوعين”.
وقال:”ان المجتمع المدني اللبناني والقوى الناشطة فيه تتمسك بوضوح بإحقاق هذا التقارب، ولعل المبادرات المتنوعة التي تضطلع بها هذه الفعاليات اكبر دليل على القدرة الموجودة على ادارة التنوع والاستفادة من غناه. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، اللقاءات التي تجمع بين مسلمين ومسيحيين في لجان الحوار المسيحي الاسلامي والعيد المشترك التي اقر للسيدة العذراء على انه عيد وطني للمسلمين والمسيحيين معا. واذا كان بعض الاعلام يغطي جزءا من هذه المبادرات الا ان الحاجة تبقى ملحة الى تسليط مزيد من الضوء على مبادرات مماثلة تترجم مساحات من الالتقاء في الظل. إن ثقافة الانفتاح على الديانات الاخرى وتشجيع الحوار هي عملية تراكمية تحتاج كي تعمم الى دعم الهيكليات القائمة من مدارس وجامعات ومراكز ابحاث ووسائل اعلامية. فمع النهضة الدينية والتوجه نحو التعرف الى الاديان على اختلافها ، وشيوع فكرة تلاقي هذه الاديان وثقافاتها في مساحات مشتركة تبرز الحاجة الى اطلاع كل من يتعاطى بالشأن الديني من الاعلاميين الى معرفة تاريخ هذه الاديان وابرز تعاليمها ومقاربتها بشكل متجرد وموضوعي سعيا الى انارة الرأي العام لمعرفة الآخر المختلف وتعزيز الحوار بين الاديان مدخلا للسلم والاستقرار وتعزيز النسيج الوطني ضمن اجواء من المعرفة المتبادلة والتفاهم”.
وختم:”المطلوب اعلام نظيف وكفوء ومتخصص فهل نحن قادرون؟الاكيد اننا نسعى”.
وطنية