ليس الحياة الأبديّة حياة هيوليّة ؛ بل إنها ترتبطُ بــ ” المعرفة والحبّ ” .
الحياة الأبديّة ، علاقة . وعلاقةٌ صميميّة بالإتحاد مع موضوع الحبّ والخصوبة ، الذي هو ” عمق الإتحاد والواقع الحقيقيّ ” ما وراء كلّ شيء .
يقول البابا بنديكتوس السادس عشر : لا تعني عبارة ” حياة أبديّة ” – ما قد يعتقده لأوّل وهلة القارئ المعاصر – حياة ما بعد الموت ، في حين أنّ الحياة الحاضرة عابرة وليست أبديّة . فالحياة الأبديّة تعني الحياة نفسها ، الحياة الحقيقيّة التي يمكن أن نحياها في هذا الزمن ، ولا تنتهي ، من ثمّ ، بالموت الجسديّ .
لا بدّ لنا من معرفة ، تجاوزًا لأيّ سوء فهم ، من أن ليس هناكَ عالَمين متجاورَين الواحد مقابل الآخر ، العالم السماويّ = العالم الأرضيّ ، ونحنُ هنا ، نسعى جاهدين لكي نربحَ السماء ، ونضربُ الأرض بأقدامنا ! فليست السماءُ ، كما قال اللاهوتيّ فرنسوا فاريون ، مكان المكافأة ! فإن العديد من المسيحيّين ، بالنسبة لهم السماءُ هي مكان المكافأة ؛ فإن أفرغنا السماء من جوهرها وجاذبيّتها ، نكون قد أفرغنا الأرض أيضا منها ، فتمسي السماء مجرد “خلود للنفس ” وتمسي الأرض مجرّد مادة زائلة ، وآلة ً لإنتاج أرواح محض (…..) ويقول أيضا : إننا نخلطُ بين العالم الآخر والعالم الذي صار آخر ، مع أن الفرق بينهما كبير ! . ليس هناك من عالم آخر ، ومن حياة أخرى ، بل إنّ هذا العالم يصير آخرَ تمامًا وهذه الحياة تصير أخرى تمامًا . يجب علينا أن نتكلّم ، لا على عالم آخر ، بل على العالم الذي ، بالقيامة ، يصيرُ آخرَ تمامًا .
كيف ؟ المعرفة والإتحاد بالله ، هي الحياة الأبديّة ….
يقولُ القديس يوحنا 17 : 3 ” والحياة الأبديّة ، هي أن يعرفوكَ أنت الإله الحقّ وحدكَ ، ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح ” .
يعلّق البابا بنديكت السادس عشر ويقول : إنّ موضوع ” الحياة ” الذي يشغلُ كلّ الإنجيل منذ المدخل (1 : 4 ) ، يبدو ضروريّا أيضا في ليتورجيّا التكفير الجديدة ، التي تتحقّق في الصلاة الكهنوتية .
إنّ معنى الحياة الأبديّة هذا ، يظهرُ جليّا في الفصل الذي يتحدّث عن قيامة لعازر : ” من آمن بي ، وإن مات فسيحيا . وكلّ من يحيا ويؤمن بي ، لن يموت للأبد ” (يو 11 : 25 ) . وقال يسوع ، في خلال العشاء السريّ : ” أمّا أنتم فسترونني لإني حيّ ولأنّكم أنتم أيضا ستحيون ” (يو 14 : 19 ) ، مظهرًا بذلك ، مرّة جديدة ، أنّ ما يميّز تلميذ يسوع ، أنه ” يحيا ” متخطّيا فعل العيش البسيط ، ليعانقَ الحياة ” الحقيقيّة ” ، التي يفتّش عنها الجميع . كما قالَ الربّ نفسه ” أتيتُ لكي ما تكونَ لهم الحياة ، وتكون ” أوفَر ” … !
بالفعل ، هناكَ أناسٌ يعيشون ولديهم نَفَس الحياة ، لكن قليلون لديهم هذه ” الوفرة ” التي أعطاها لنا الربّ ، وهي ، معهُ فقط ، تكونُ بوفرة ٍ ، بالإتحاد والترابط والإتصال به ، بالمعرفة والمحبّة .
إنطلاقا من هذه العبارات ، لقّب المسيحيّون الأوائل بـ” الأحياء ” . لقد وجدوا ما يبحث عنه الجميع ، الحياة نفسها ، الحياة المفعمة ، التي لا تُدمّر .
يعطينا البابا بنديكتوس 16 السبيلَ للحياة الأبديّة من خلال الصلاة الكهنونيّة . إنها تعطي الجواب المذهل : إن الإنسان يجدُ ” الحياة الأبديّة ” بـــ المعرفة ، مفترضين بذلك أن تصوّر العهد القديم للفعل ” عرف ” يستتبع المشاركة ، بحيث يصيرُ المرء واحدًا مع ما يعرفه ؛ لكن ، من الطبيعيّ أنّ مفتاح الحياة ليس أيّ معرفة ٍ كانت ، بل ” أن يعرفوكَ أنت الإله الحقّ وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته ” ..
المسيحيّ ، لا يعتقدُ بأشياء كثيرة ، بل إنه يؤمن في أعماقه ، بكلّ بساطة ٍ بالله ، بوجود إله واحد حقّ . إذن ، تبدأ الحياة الحقيقيّة بـــ المشاركة ، العلاقة مع الله ، بالحوار .. الحياة الأبديّة ، إذن ، هي حدث علائقيّ ؛ لم يكتسبها الإنسان وحده ، ولأجله فحسب . إنه ، بعلاقته بالذي هو نفسه ” الحياة ” ، يصبح هو أيضا حيّا .
وهناكَ تحضير لهذه الفكرة التوراتيّة عند أفلاطون ، الذي جمع في آثاره عادات وتأمّلات متنوّعة عن موضوع الخلود . نجدُ عنده فكرة تقول إنّ الإنسان يستطيع أن يصيرَ خالدًا ، بإتحاده بما هو خالد . وبمقدار ما يتقبّل في ذاته الحقيقة ويرتبطُ بها ، ويلتصق بها ، بمقدار ذلك يرجع إليها في كلّ شيء ، ويمتلىء بما لا يدمّر ويزول .
المقصود من هذه ” الحياة في علاقة ” هو أسلوب وجود واقعيّ جدّا ، وأن الإيمان والمعرفة ليسا مجرّد أيّ علم حاضر في الإنسان ، بل هما شكلُ وجوده . وإن لم تكن المسألة متعلّقة بالمحبّة ، في ما خصّ هذه النقطة ، فبديهيّ أن تكون ” معرفة ” مَن هو المحبّة ذاتها ، محبّة بحجم مدى هبته وتطلّبه .
الحياة الأبديّة ، لا تُفسّر إنطلاقا من وجود فرديّ منعزل وممّا يتمتّع به هذا الوجود من سلطة خاصّة ؛ بل إنطلاقا من حالة الإرتباط بالله التي هي عنصرٌ مكوّن للإنسان . لأنّ الله ، كما يقولُ بنديكتوس ، ليس ذرّة بل علاقة .
إنّ الصوت اللاهوتيّ والصوت الإنثروبولوجيّ ، في الحوار يمتزج أحدُهما بالآخر في الكريستيولوجيا بحثا عن المحبّة . في كلّ محبّة بين الناس ، ثمّة نداءٌ إلى الأبديّة .
في النهاية نقول ، إن المسيح القائم من بين الأموات ( انقطاع الحياة الحقيقيّة – والوحشة والوحدة ) ، هو موضع الحياة الحقيقيّة . المسيح ، بحسب قول رائع للكاتب شلير ، يقود الزمن إلى نهايته بإدخاله في لحظة المحبّة ، فحيثما تُعاش الحياة الإنسانيّة مع يسوع ، تدخل على نحو ٍ ما في ” زمن يسوع ” أي في المحبّة ، التي تحوّل الزمنَ وتفتح الأبديّة
زينيت