لو رجعنا قليلاً إلى اللغات القديمة التي كانت سائدة آن انطلاقة الحياة الرهبانية، لوجدنا في اللغة اليونانية، مثلاً، كلمة “موناخوسMONAXOS=” تعني متوحد (MON0=واحد)، كذلك في اللغة السريانية: “يحيديو” تعني ايضاً متوحد، اي الذي يعيش وحيداً. انطلاقاً من هذا التعريف اللغوي، نلاحظ المفارقة بين ما يرسمه الكتاب المقدس وبين الراهب، فالكتاب المقدس وعبر صفحاته الأولى، وفي حديثه عن الإنسان، يقول: “ذكراً وانثى خلقهما…” وجعل الله في كيان الرجل والمرأة انجذاباً الواحد نحو الآخر، وها الراهب يعيش وحيداً. ماذا وراء هذا؟
الراهب هو رجل الأبعاد، من يرى الحياة الثانية بعين الإيمان ويعشها مسبقاً على هذه الأرض، “فهناك لا يزوجون ولا يتزوجون،… لا رجل ولا امرأة”… إنها الحياة الثانية، وهذا ما يعيشه الراهب الآن. من هنا جاءت التسمية العربية: راهب، أي من رهب الآخرة وعاش في العالم وكأنه ليس من هذا العالم. وكلمة عالم لا تعني البشر، الإنسان الآخر، ولكنها تعني ما عناه القديس يوحنا “لا تحبوا العالم وما في العالم، فكل ما في العالم من شهوة العين وشهوة الجسد وفخر الحياة…” هذا المفهوم الإنجيلي المسيحي لكلمة عالم، وهذا ما يرهبه الراهب، أي العيش بحسب الجسد وخسارة الحياة الأبدية، لهذا انسحب الراهب من العالم وضجيجه وصخبه ومتطلباتة ليكون وحيداً مع الوحيد (الوحيد هو يسوع المسيح)، وليكون بالأكثر على مثال الوحيد، مسيحاً يسعى لخلاص العالم. وهذا بعض ما تتضمنه كلمة راهب من معان… إنطلاقاً من هذا، نفهم معنى كلمات القديس شربل “كونوا رهبان في قلب العالم”، أي أنتم العائشين في قلب العالم إرهبوا الخطيئة، خافوا الآخرة، مثلكم مثل الراهب، وأظن أنه يمكننا القول ان المسيحين كافة هم رهبان، اي هم مؤمنون يرهبون الآخرة ويعيشون في العالم وأنظارهم شاخصة إلى الحياة الثانية.
الحياة الرهبانية في الكتاب المقدس:
لا رهبان في الكتاب المقدس، فكل أسفاره، بعهديه القديم والجديد، لا تُذكر حتى كلمة راهب، ولا تتضمن تعليماً او تلميحاً إلى هذا المنحى من الحياة. حتى المسيح نفسه لم يدعو ولا مرة واحدة إلى الحياة الرهبانية، جلّ ما نجده هو ذلك النداء الموجه لذلك الشاب الذي جاءه يسأله عن الكمال، فأجابه: “اذا شئت ان تكون كاملاً اذهب وبِع كل ما تملك وأعطه للمساكين وتعال اتبعني…” قال له: “تعال اتبعني”، ولم يقل له: “تعال وكن راهباً، فاتباع يسوع هو الاقتداء به والسير على خطاه، إنه “الطريق” الموصل إلى الحياة الأبدية، هذا ويسوع نفسه اختار من بين تلاميذه رسلاً ليحملوا رسالته لا ليكونوا رهباناً بل رسلاً. ولكن لو ألقينا ضؤ الواقع الحالي من الحياة الرهبانية على الكتاب المقدس، نجد في كلام السيد المسيح المار ذكره أعلاه “حجة” للحياة الرهبانية، ونجد ايضاً في بعض شخصيات مثالاً وقدوة في عيش رهباني أصيل، فإيليا ويوحنّا المعمدان والمسيح نفسه عاشوا نهجاً ما زال الرهبان محافظين عليه في حياتهم اليوم.
كيف انطلقت الحياة الرهبانية:
في بدايات الكنيسة، لم يعش المؤمنون في بيئة واحدة، بل كانوا منتشرين في العالم الوثني انما “كانوا مواظبين على الصلاة والتعليم وكسر الخبز…” لم يتميزوا عن سواهم لا بالشكل ولا باللون ولا بأي شيء آخر، سوى بمحبتهم للجميع وبعيش داخلي مميز… ومع هذا كان نصيب بعضهم الموت مقابل الحفاظ على إيمانهم… كان الاضطهاد مريراً عليهم إذ ظنهم الرومان أنهم فئة معادية للحكم، ولم يهدأ الحال إلاّ في أواخر القرن الثالث وبدايات القرن الرابع، وتحديداً انطلاقاً من سنة 313، يوم إعلان معاهدة ميلانو التي بموجبها أعلن الأمبراطور الروماني قسطنطين الدين المسيحي ديناً رسمياً للدولة الرومانية بدل الوثنية، وأباح للمسيحيين ممارسة شعائرم الدينيّة بكل حرية… إنطلاقاً من هذا الموقف الجديد، أخذ الكثير من الوثنيين بالإنضمام إلى المسيحيّة، لا عن قناعة بل اعتبروا الأمر شيئاً جديداً لا بدّ منه، هذا التبديل في المعتقد لم يكن من الداخل بل من الخارج فقط، اذ ظل القسم الأكبر من هؤلاء المسيحييّن الجدد على عاداتهم الوثنية التي تولي الاهتمام الأكبر للجسد… أزعجت الحالة هذه أولئك الذين اعتنقوا المسيحيية وعاشوها كمعتقد وليس كطبقة إجتماعية، فقام البعض منهم إن جاز التعبير، بردة فعل تجاه الحدث، وبدل شهادة الدم، تاقت نفوسهم إلى شهادة الحياة. وألهبهم الحنين إلى حياة الجماعة المسيحيية الأولى. فهجروا العالم وسكنوا البراري والقفار، ساعين إلى عيش جذريّة إنجيلية صادقة، واثقين أنّ المسيحية ليست إلا قناعة من الداخل تنعكس جملة قواعد مسلكية صادقة وتحددها، هؤلاء هم النساك والمتوحدين الذين ملأوا البراري لا سيما في مصر، وكان في طليعتهم القديس بولا أول النساك، الذي تربطه بالقديس أنطونيوس علاقة قويّة.
في إطار كنيسة الاسكندرية التي أسّسها القديس مرقس (هناك خمس كنائس هي: أورشليم امّ الكنائس، أنطاكيا، القسطنطينيّة، روما والاسكندرية)، وفي أجواء مدرسة الاسكندرية التي تعتمد في تفسير الأمور على الرمزية، عاش القديس أنطونيوس الكبير (251-356)، وكتب سيرة حياته القديس أثناسيوس الإسكندري. ولمعرفة المزيد عن سيرة حياة كوكب البرية لا بدّ من عودة إلى كتاب أثناسيوس، او أقله إلى السنكسار الماروني الذي يقدم موجزاً عن سيرة حياة القديس أنطونيوس، للتذكير نقول “أنه ولد في بلدة كوما في صعيد مصر في إطار عائلة مسيحيّة غنيّة…، مات والديه وهو حدث تاركين له ولأخته الوحيدة ثروة طائلة،… وذات يوم دخل الكنيسة للمشاركة في الذبيحة الإلهية، فسمع نص الإنجيل الذي موضوعه “الشاب الغني”… فحسب أنطونيوس ان كلام السيد المسيح موجه إليه مباشرةً، فبعد إنتهاء القداس، غادر أنطونيوس الكنيسة ومضى فباع كلّ ما يملك وأعطى أخته نصيبها من الميراث وأودعها عائلة مسيحية ومضى نحو الصحراء يفتش عن الضروري الأوحد، ناهجاً سبيلاً جديداً ما عاشه أحد قط قبله، وبذلك أصبح مؤسس مدرسة حياة روحيّة. إختبار أنطونيوس هذا جذب إليه الكثير من الشباب، فلحقوا به وتتلمذوا له، فأخذ يبني لهم المناسك والقلالي، فازدهرت الصحراء وأخصبت بستاناً روحياً جديداً في رحاب كنيسة الله.
كما قلنا سابقاً، المرجع الوحيد عن حياة القديس أنطونيوس هو ما كتبه القديس أثناسيوس الإسكندري. إن هذا الأسقف المزدان بالعلم والفضيلة والملتهب غيرة على نشر الإيمان، حمّل سيرة القديس أنطونيوس مجمل نظرته ومفهومه للحياة الرهبانية، لذا نجد فيها فكراً لاهوتياً عميقاً… تماماً كما فعل تيودوريطس أسقف قورش في تدوين سيرة أبينا القديس مارون العظيم شفيع الكنيسة المارونيّة، فكان حدث أنطونيوس في مصر كما حدث مارون في قورش – سوريا، حدثاً فريداً ومميزاً لذا راح كل أسقف، على حدى، يكتب بفخر ما يحدث في أبرشيته من اختبار روحيّ جديد ومميّز، علماً انّ كلاً من القديسَين العظيمين أنطونيوس ومارون لم يكتبا إختبارهما الروحيّ، إنّما حفظ التاريخ لنا بعض العبارات الشهيرة والتي غدت مناهج حياة لطلاب الكمال.
إختبار القديس أنطونيوس صار نهجاً روحياً جذب إليه الكثير من الشباب، فصار بالنسبة لهم مثالاً يُقتدي به، درّبهم على سلوك طريق الكمال ومحاربة الشرير والإنتصار عليه، وكانت وصيته الوحيدة لهم كلمة واحدة فاه بها قبيل رحيله من هذا العالم: “الفطنة”. فهو نظير معلّمه الإلهي لم يكتب كلمة واحدة، بل عاش وعلّم، فغدا بذلك مؤسس الحياة الرهبانية في العالم قاطبة، وكتب أجمل صفحات الحبّ على قلوب المؤمنيين.
إنتشار الحياة الرهبانية:
كان القديس أنطونيوس نقطة إنطلاق لإنتشار الحياة الرهبانية، وهذا امرّ محسوم لا جدل فيه. اما لشرح هذا الراي فسنعرض أمرين:
– الأول: من الخارج إلى الصعيد؛
– الثاني: من الصعيد الى الخارج.
الأول: من الخارج الى الصعيد: والمقصود بذلك تلك الحركة باتّجاه الصحراء حيث القديس أنطونيوس، فجموع الشباب الساعين إلى الكمال من مصر وسواها من البلدان المجاورة حيث وصل صيت قداسة أنطونيوس وعطر نسكه الملائكي، أمت الصحراء سعياً وراء المُطلق على خُطى أنطونيوس العظيم. وقد يكون من خير الدلائل على هذا وجود دير في الصحراء يعرف بدير السريان، والأغلب أنّ تلك الفئة من الشباب الآتين من المناطق الناطقة باللغة السريانية، لجهلهم لغة الصعيد القبطيّة تألّبوا في دير واحد يعيشون فيه ليتورجيتهم السريانية في ظل روحانيّة جديدة مبعثها صحراء مصر.
الثاني: من الصعيد إلى الخارج: والمقصود بكلمة خارج: العالم بأسره، لاسيما العالم القديم: إفريقيا، آسيا وأوروبا.
– أفريقيا: فمن صحراء مصر انطلق تلاميذ القديس أنطونيوس ينشرون نهجاً جديداً في المناطق المجاورة، في السودان وأثيوبيا وسواهما. وظلت هذه المدارس الرهبانيّة الجديدة بارتباط وثيق مع صحراء مصر، من حيث النهج والليتورجيا وطريقة العيش.
آسيا:
– فلسطين: مؤسس الحياة الرهبانية في الأراضي المقدسة هو القديس سابا، الذي نقل من مصر إلى فلسطين ما هو مُعاشٌ هناك، هذه الحياة عرفت ازدهاراً ملحوظاً عبر التاريخ. نُشير إلى انّ القديس يوحنّا الدمشقي عاش حياته الرهبانيّة في دير القديس سابا في فلسطين… وحالياً تشكو الحياة الرهبانيّة في فلسطين نوعاً من الاستعارة، فرهبان دير مار سابا هم من اليونان، ورهبان أورشليم هم من الفرنسيسكان وسواهم…
– لبنان: يقول التقليد الرهباني أنّ تلامذة القدّيس أنطونيوس هم الذين جاؤوا لبنان وأسسوا الحياة الرهبانيّة في وادي قزحيا (أي كنز الحياة)، والدليل على ذلك وجود محبسة على مسافة قريبة من دير القديس أنطونيوس الكبير تعرف بمحبسة مار بيشوي، أحد آباء الصحراء… هذه المحبسة هي اكثر قدماً من الدير،… من هذا المكان انطلقت الحياة الرهبانيّة لتنتشر بشكل كثيف في وادي قزحيا ووادي قاديشا أو وادي قنّوبين وفي مناطق وجبال البترون والعاقورة…
– سوريا: رائد الحياة الرهبانية في سوريا هو العظيم بين القديسين مارون (+410) ناسك قورش وأبو الكنيسة الرهبانية… ابتكر هذا الناسك نهجاً جديداً في العيش الرهباني وهو العيش في العراء، وعنه اخذ الكثير هذه الطريقة وتفننوا في عيش أنماط جديدة فكان منهم العمودييون، امثال القديس سمعان العموديّ… وبين مدرسة مارون في سوريا وديره على نهر العاصي وبين رهبان لبنان تواصل وتكامل، مردّه إلى وحدة اللغة والمعتقد والإضطهاد وسواه…
تركيا: لتركيا مجد تشهد عليه آثار تلك المنطقة الممتدّة حتى شمالي بلاد ما بين النهرين وأرمينيا والكابدوك، بالإضافة إلى شهرة آباء الروح فيها في فقرات تاريخيّة سحيقة، ويبقى الفضل في كل ذلك إلى القدّيس باسيليوس الكبير الذي عاش وعلّم وكتب وركّز أسس المسيحيّة هناك… تحتوي هذه المدرسة حالياً بقايا حياة رهبانية (ومسيحية) تشارف على التلاشي بسبب اضطهاد مستديم تمارسه الدولة التركية ذات النظام المسلم سابقاً، والمدني حالياً…
هذه الكثرة من المدارس الرهبانية في آسيا مردّه إلى التقسيم الإداري الذي أوجدته الدولة الرومانية كوسيلة لحسن إدارة المستعمرات فيها بالإضافة إلى نهج كنائس أورشليم وأنطاكيا والقسطنطنية.
أوروبا: رائد الحياة الرهبانية في الغرب هو القديس مبارك (بنوا)، ويقال انّ بين القديس أنطونيوس ومبارك صلة معرفة….
تجدر الإشارة إلى انّ للقديس باخوميوس المصري تلميذ القديس أنطونيوس، دور في إنشاء ما يعرف بالحياة الديريّة الجماعيّة التي لا تزال معروفة في مصر وسواها، هذا بالإضافة إلى تنوّع أنماط الحياة الرهبانية، شرقاً وغرباً، وفق مقتضيات البيئة والعصر. على مثال ما قام به باخوميوس في مصر، كان دير مار مارون على نهر العاصي الذي كان يضم، وما حوله من مناسك، اكثر من ثمانمئة راهب، كذلك دير السيّدة في قنّوبين كان المركز الرئيسي لمجمل أديار ومناسك وادي قنوبين، لا لأنه مركز البطريرك، ولكنه، كما تشير تسميته= دير الجماعة.
خاتمة:
في الصحراء لا طريق، لا ماء، لا ثوابت، بل رمل متحرّك تتلاعب بها ريح الصحراء الجافة والقاتلة والحارة، في الصحراء هنالك الحيوانات المفترسة والضارة… ومع ذلك كله لا بدّ من إجتيازها، فإذا تهاون العابر، تلاشى وإضمحلّ فريسة كلّ ما تقدّم، أما إذا عارك وجاهد فلا بدّ من الوصول إلى الواحة، حيث الكلأ والماء والراحة بعد الجهاد، بالمختصر هناك الحياة…
هذا هو إختبار القديس أنطونيوس الكبير الذي تركه لنا إرثاً غالياً، لا لنا نحن الرهبان المنتمين إليه، إلى مدرسته ونهجه، بل أنّه النهج لكل من أراد السير على خطى المسيح، لا سيما في أيامنا هذه.
صلاة القديس أنطونيوس الكبير تكون معنا وتحفظنا وتساعدنا لنشهد لإيماننا بكل صدق ومحبة، لمجد الله وخلاص نفوسنا.
أليتيا