قد يكون بديهيًّا التذكير بأنّ الحرب تخرب البلاد، فلا تبقي ولا تذر، لا أخضر ولا يابس. الحرب تخرب المدن والقرى والمباني، فتحوّلها إلى ركام من حجارة وحديد ومتاع. الحرب تخرب البلاد وتهلك العباد وترهب مَن تبقّى منهم على قيد الحياة، وتقضي على معالم العمران…
بيد أنّه لمن الضروريّ التذكير بأنّ الحرب لا تخرب الدنيا وما فيها، بل ينجم عنها أيضًا خراب الدين والأخلاق، وبخاصّة حين يُستغلّ العامل الدينيّ، أو المذهبيّ أو الطائفيّ، في تأجيج الصراعات الأهليّة وفي إيقاظ الفتنة الداخليّة. خراب الدين يبدأ من لحظة تطويعه من الفقهاء لخدمة السلاطين والساسة في مخطّطاتهم ومأربهم الهادفة إلى فرض هيمنتهم على البلاد والعباد.
يزداد الدين خرابًا كلّما أوغل ماسكوه في إدخاله ميدان الصراعات السياسيّة، أو ميدان السيطرة على الأسواق التجاريّة ومنابع الثروات الجوفيّة. وليس ما ينقذ الدين من السقوط في الخراب سوى عدم السماح بتحويله مطيةً لأصحاب المصالح، وإعادته إلى وظيفته الأولى، وهي أن يكون عاملاً للقربى إلى الله، وفي الوقت عينه عاملاً للتقارب والألفة بين الناس.
إبّان الحروب الصليبيّة، خرب الباباوات والأساقفة والملوك والأمراء الدين والكنيسة. فبلغت أوروبا في تلك الحقبة ذروة انحطاط القرون الوسطى… غياب العقل، محاكم التفتيش، ملاحقة الهراطقة والمشعوذات، صكوك الغفران، بيع وشراء المراكز الدينيّة. لقد استغلّ القادة الأوروبيّون، آنذاك، العامل الدينيّ لفرض سيطرتهم السياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة (ينبغي ألاّ ننسى موضوع الأسواق والتجارة) على الشرق. فخرب الغرب، وخرب الشرق، وخرب الدين.
هكذا يصوّر فرح أنطون أفضل تصوير أهل الإرساليّات الغربيّة (كاثوليكيّة وبروتستانتيّة) التي وردت إلى الشرق في القرن التاسع عشر، وذلك على شكل راهب يضع قبعة راهب، ويحمل في يمينه كتابًا مقدّسًا، وفي يساره سيفًا، وعلى ظهره بضائع روما وباريس ولندن. وفيما كانت فرنسا آنذاك تقمع أهل الكنيسة وتمنعهم من الإسهام الشأن العامّ، كانت في الوقت عينه تدعمهم بالمال وبالامتيازات كي يأتوا إلى الشرق ويسهموا في ترسيخ الحضور السياسيّ لوطنهم الأمّ.
من النافل القول، إذًا، إنّ الدين قد استُغلّ قديمًا وما يزال يُستغلّ اليوم، ولا سيّما في شرقنا العزيز. فهذه الحروب الناشبة، هنا وثمّة، تقوم وتحيا وتستمرّ على استغلال الواقع الدينيّ والمذهبيّ المتأزّم. يقاتل المسلمون بعضهم بعضًا في سبيل مصالح إمبراطوريّة (غير إسلاميّة) كبرى، أو في سبيل عائلات حاكمة (باسم الإسلام أو بغير اسمه)، في سبيل نفظ وغاز لا ناقة لهم فيها ولا جمل. غير أنّ أهل البلاد وحدهم، مسلمين ومسيحيّين، هم مَن يدفعون الثمن.
يقاتل المسلمون بعضهم بعضًا، يعمّ الفساد، يتسلّط الجهل، يسيطر التكفير. يغيب الفكر الدينيّ، يُقفل باب الاجتهاد، تُبثّ الحياة في الفتاوى القديمة، تُبعث الخلافات المذهبيّة القديمة. رجال الدين هم المسؤولون عن خراب الدين. ليس سواهم مسؤول عن الدفاع عن الدين عبر تنزيهه عن الغرق في رمال الاستغلاليّين المتحرّكة.
قد يُعاد إعمار البلاد الخربة بسبب الحرب بعد سنين قليلة، إلاّ أنّ الدين إذا خربه رجاله فبحاجة إلى قرون كي ينهض من كبوته. لكنّ الأكثر هولاً من الأمرين معًا إنّما هو التذكير بأنّ البشر الذين يذهبون ضحايا هذه الحرب لن يعودوا أبدًا إلى هذه الحياة الدنيا.
ليبانون فايلز