الأحداث التي جرت في مدينة كسب السورية المتاخمة للحدود مع تركيا أعادت إلى الواجهة مسألة “الأقلّيّات” الدينيّة. فالأرمن الذين استهدفتهم الاعتداءات، إلى جانب سواهم من المواطنين السوريين، أيقظوا مشاعر التضامن معهم لدى إخوانهم الأرمن المنتشرين في أرجاء العالم، كما ولّدت لديهم مشاعر الخوف والقلق من تكرار المجازر التي ارتكبتها تركيا بأجدادهم في بداية القرن المنصرم.
المسيحيون يرفضون أن يُعاملوا معاملة “الأقلّيّات”، وهم يسعون، منذ ما قبل سقوط الدولة العثمانية إلى قيام الساعة، إلى عيش ملء المواطنة على قدم المساواة مع شركائهم المسلمين. وقد عملوا كلّ ما في وسعهم من أجل هدم الجدار الفاصل الذي أقامه نظام “أهل الذمّة” ما بين المسلمين وسواهم من “رعايا” الدولة الإسلامية. ويسعنا القول إن سعيهم هذا قد تجلّى في المطالبة بفصل الدين عن الدولة.
في الوقت الذي قسّمت فيه فرنسا، دولة الاستعمار، سوريا إلى أربع دول: دولة دمشق ودولة حلب ذاتا الغالبية السنّية، ودولة العلويين، ودولة الدروز، توزّع المسيحيون على الدول الأربع، ولم يكن لهم كيانهم الخاص. وهذا يدلّ على عمق التزام المسيحيين بسوريا الواحدة الموحّدة، لذلك لم يطالبوا بدولة خاصة بهم تكون بمثابة “إسرائيل” ثانية في ديار العرب.
“الأقلّيات” في الشرق ليست ابتكاراً مسيحياً، بل فُرض عليهم أن يكونوا “أقليات”. فالدولة الإسلامية، منذ نشأتها، قسّمت المجتمع إلى فئتين: المسلمون ولهم كلّ الامتيازات، و”أهل الذمّة”. وإذا كان تقسيم المجتمع وفق الانتماءات الدينية أمراً طبيعياً ومقبولاً في التاريخ القديم، شرقاً وغرباً، ففي عصرنا بات هذا الأمر ممجوجاً وغير مقبول، ومنافياً للعصر، بل ضدّ الطبيعة.
المسيحيّون تاقوا ويتوقون إلى الخروج من أسر “الأقليات”. هم يرغبون في التحرّر من قيود الانتماءات الطائفية الضيقة. لكنّ السياق العامّ لم يساعدهم على فكّ هذا الأسر. فلا الدولة الإسلامية سمحت لهم بالتحرّر، ولا الأنظمة العسكرية والديكتاتورية كانت أمينة على تطبيق “العلمانيّة” الحقّ، ولا المشاريع المطروحة الآن تحمل لهم أملاً بالانعتاق، بل تحمل لهم يأساً مطبقاً، إذ تعدهم بالعودة إلى أنظمة قروسطية متخلّفة عمّا يتوقون إليه.
يستهجن بعضهم تضامن المسيحيين مع إخوتهم المسيحيين السوريين في كلّ مرّة يتعرّضون فيها للاعتداء، ويعتبرون ذلك نوعاً من الطائفية البغيضة. غير أنّهم في الوقت عينه يتبنّون خيارات طائفيّة، ويتغاضون عن دعم إخوانهم في الدين لهم بالسلاح والمال والشحن المذهبيّ. فيا ليتهم جميعهم يتضامنون مع كلّ ضحيّة ومهجّر ومعتدى عليه وعلى أرزاقه.
الأرمن في سوريا هم مواطنون سوريّون، وليسوا “جالية” كما وصفتهم إحدى القنوات التلفزيونيّة. وهم لا يريدون أن يكونوا “رعايا” السلطان من جديد. فما صنعه السلطان العثمانيّ وورثته من العلمانيّين الأتاتوركيّين بأبناء كنيستهم ما زال محفوراً في عمق وجدانهم وذاكرتهم الحيّة.
كما شهد شمال سوريا إبّان النصف الأوّل من القرن العشرين إبادة الوجود المسيحيّ في معظم مناطقه التاريخيّة. طُرد الأرثوذكس من أنطاكية ومن لواء الإسكندرون الذي أهدته فرنسا الاستعمارية الى حليفها أتاتورك، وطُرد السريان من ديار بكر وماردين وسواهما من المدن السريانية العريقة… ثمّ تتساءلون لماذا ينتاب المسيحيون القلق والخوف من المستقبل؟
النهار