في القرن السادس عشر وقعت اتفاقية الامتيازات الأجنبية بين فرنسا والدولة العثمانية. من غير المعروف يومها إن كان المسيحيون العراقيون، ومسيحيو الشرق عامة، قد فرحوا بالاتفاقية التي منحت فرنسا هامشاً واسعاً من حرية التصرف في أصقاع الامبراطورية. فالاتفاقية في محصلتها التاريخية كانت وبالاً على المسيحيين العرب المشرقيين.
فتحت الإتفاقية بين فرنسا والدولة العثمانية المجال لنهم الغرب الصاعد بقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية هائلة عقب الثورة الصناعية، لكي يتدخل في الامبراطورية العثمانية، ويبحث في شتى السبل للتمدد فيها، والسيطرة عليها طمعاً بثرواتها من جهة، وللسيطرة على طريق الشرق الأقصى المعروف بطريق الهند، وكانت أهم المحطات التي اتخذها الغرب مواطئ لأقدامه، وأسساً لتمدد نفوذه، وهيمنته لاحقاً، الوجود المسيحي في مختلف أصقاع الامبراطورية. طالبت الامتيازات بحرية للمسيحيين، رغم تخلي الغرب عن مسيحيته إثر بلوغ تطوره الرأسمالي مستويات عالية. ربما ظن المسيحيون أن الامتيازات التي نالوها بالمسعى الفرنسي نعمة عليهم، ومنة ممن أسموها لاحقاً “الأم الحنون”، فهم لم يدركوا مغازيها المستقبلية. شكلت الامتيازات فضاءات لتحرك الغرب الواسع في بلاد الشرق الرازح تحت حكم السلطنة العثمانية التي حكمت باسم الخلافة الإسلامية. وكما في مختلف مراحل حكم الإسلام، عاشت في كنف الخلافة مختلف المعتقدات والاثنيات حتى مراحل متقدمة من عمر آخر خلافة إسلامية وهي العثمانية التي مضى على حكمها ثلاثة قرون من الزمن لم يذكر التاريخ أنه تعرضت المعتقدات والاثنيات المختلفة فيها إلى عدوان أو اضطهاد، حتى بلوغ نهاية القرن التاسع عشر، فظهرت المجازر الوحشية، والاعتداءات المذهلة على نطاق واسع غير مسبوق. كانت الامتيازات قد أتت ثمارها، وأتاحت للغرب الاستعماري بالتوغل في مفاصل المجتمعات المنضوية في الامبراطورية، فتأسست الإرساليات، وأنشئت القنصليات، وأوفدت البعثات التبشيرية البروتستانتية. يلفت رئيس الاتحاد الكاثوليكي للإعلام الأب طوني خضرة أن “الغرب أوفد رجال دين لرد المسلمين إلى المسيحية، وفشلوا، واستنتجوا أنه من الأفضل تحويل المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك إلى البروتستانتية”. أما الأب أنطوان ضو فيقول “إن التواصل حدث في مختلف المناطق بين المسيحيين والغرب، من خلال المدارس والمرسلين الأجانب، سواء بروتستانت او كاثوليك، الذين حرضوا فيهم روح العدائية، وحاول المسيحيون أن يتشبهوا بالغرب كما كل الناس، في نزعاتهم القومية خاصة”. يضيف ضو أنه “في القرن الـ١٨، دخل الغرب علينا وفي ذهنه كيف يسيطر على طريق الهند وعلى ثروات المنطقة. ترافق ذلك مع توافر عناصر داخلية وضغوطات وحالة سياسية لم تكن على وئام مع محيطها في ظل زيادة نفوذ الغرب، حيث كانت قد نمت النزعات القومية المحلية التي برزت في القرن التاسع عشر متأثرة بالنزعات القومية الغربية، وحركت النزعة القومية لدى الأقليات، ونما فكر قومي عند الأرمن والأشوريين والسريان، وكان هذا الفكر يريد شيئاً من الاستقلال والحرية وأن يتمتع بشيء من الامتيازات”.
مشهد العراق اليوم.. عودة للمدرسة العثمانية
إستفادت الامبراطورية العثمانية من اتفاقية الامتيازات بانتشار حركة اقتصادية تجارية مع الغرب الصاعد، بينما الامبراطورية ترزح في الماضي وتترهل باطراد. وكانت المعاهدة بداية الطريق مفيدة للامبراطورية، وللغرب في آن.يرى الكاتب حسن قبلان أن “الذي اسس لمنطق العلاقات والتبعية لهذا الغرب هو الدولة العثمانية بالاتفاقيات التي كانت تعقدها مع الغرب خصوصاً فرنسا وبريطانيا”، مردفاً “أنه “في هذه الاتفاقيات، تنازلت السلطة العثمانية عن الكثير من سيادتها المحلية”.يتحدث قبلان عن اتفاقية وقعت في القرن الثامن عشر “سمحت لفرنسا بالتجوال في كل مياه السلطنة العثمانية، ومنعت المحاكمة القضائية عن الرعايا الفرنسيين إذا ارتكبوا أفعالاً جرمية على أراضي الدولة العثمانية، ثم اتفاقيات عام 1912 كاتفاقية لوزان التي تخلت فيها السلطنة عن ليبيا للإيطاليين، وهذا ما أسس العلاقة مع الغرب بالمنطق التبعي، ولم يكن ذلك على أيدي الاقليات والشعوب، بل على يد السلطات العثمانية”.لم يرق الأمر في القرن التاسع عشر للعثمانيين الذين استشعروا الخطر جراء التدخلات الأجنبية في بقاع مختلفة من مناطق نفوذهم. وكانت السلطنة قد بلغت مرحلة العجز والأفول أمام المد الحديث الوافد من الغرب، فكانت ردات فعلها قاسية وكأنها تريد الدفاع عن نفسها بمواجهة موتها المحتم على يد الحداثة التي لم تستطع مجاراتها. فوقعت المجازر الرهيبة التي دفعت الأقليات المسيحية في الأطراف، كشمال العراق وشرق تركيا، ثمنها الباهظ في حياتها ووجودها. عن هذا الجانب يقول قبلان “إن الدولة العثمانية انتقمت من المسيحيين العرب رداً على فشلها في البلقان، ورداً على دعوات الحرية لشعوب البلقان باليونان وبلغاريا وغيرها. وفي البوسنة والهرسك. أرادت أن تنتقم لفشلها في المناطق الأوروبية المحتلة بالاعتداء على المسيحيين الذين هم في حوزة المسلمين وفي ديارهم وفضائهم”.ويرى قبلان أن الذين ارتكبوا هذه المجازر، وبعد المشاكل التي حصلت في مصر في القرن الثامن عشر، “سوقوا لارتباطات من هنا وهناك، وهي نفس التبريرات التي ساقها العثمانيون ضد شهداء السادس من أيار في لبنان وسوريا حيث كان الشهداء من مختلف طوائفهم سنة وشيعة ومسيحيين، وقالوا إنه كانت لهم علاقة بالسفارات الفرنسية والاجنبية وغير ذلك” مشيراً إلى “أنه لا شيء يبرر ارتكاب مجازر جماعية بهذا الشكل حتى لو أن أحد السياسيين من طائفة معينة كان على علاقة بجهة غربية”.قبلان يرى في مشهد العراق اليوم “عودة إلى مدرسة عثمانية مارست الظلم على جميع مواطنيها بمختلف قومياتهم وإثنياتهم ولغاتهم” معتبراً أن “عودة منطق الدولة العثمانية بفرض مدرسة واحدة في الدين والمذهب والقومية، في القرن الواحد والعشرين هي انتكاسة كبرى لنا جميعاً”.
المصدر: الميادين نت