غداً في كنيستي يرفع اللحم عن الموائد استعداداً لدخول الصوم الكامل بعد أسبوع. ويقرأ في هذا اليوم فصل من إنجيل متى موضوعه الدينونة كأن الكنيسة تريد اننا بولوجنا الصوم نطلب التوبة التي ترفع عنا الدينونة. بمعنى أفصح، النفس هي الصائمة والإمساك عن الطعام رمز للعفة المبتغاة. ليس الجسد عندنا مستقلاً عن النفس ولا النفس عن الجسد ولذلك إذا ابتغينا التوبة يكون الصوم عندنا رافدها. الكنيسة الشرقية فاهمة عميقاً ان النفس لا تكتفي بذاتها بلا إمساك.
ولكننا لسنا مهووسين برفع اللحم. لذلك كان همنا تأمل دينونتنا الجارية اليوم لا غداً فينا. صح اننا نقرأ الإنجيل المتعلق بالدينونة الآتية. الا اننا نؤمن مع بولس ان الله يدين سائر الناس اليوم لأن دينونتنا ليست حدثاً آتياً فحسب ولكنها قائمة في مواجهة الله اليوم. الله ديان ليس بمعنى انه يحاسب فحسب ولكن بمعنى انه يفصلك عن الباطل فيك ويشدك إليه.
ليست الدينونة محاكمة بالمعنى الذي يعرفه البشر أي ان يرصفك الله في الصالحين أو الطالحين ولكن الدينونة كانت ليرفع الله عنك الإدانة ويجعلك له. ولذلك لست له ما لم تنكر الشر الذي فيك وتتطهر لترى وجهه. الإنجيل يتكلم عن الدينونة آتية. ذلك ان الرب سيأتي ويدين. ولكن الرب أتى ولهذا لك ان تقول: “تعال أيها الرب يسوع”.
لقد ركزت الكنيسة على هذه التلاوة الإنجيلية لتقول لنا إن الصوم كله لا معنى له إلاّ التطهر وانك تدخل فيه لترفض الخطيئة وتقبل البر الذي في المسيح يسوع.
واضحة الكنيسة في كل ممارساتها ان المبتغى قيامة النفس من الخطيئة لتستطيع رؤية الرب. نحن لسنا مهووسين بالخطيئة كما يتصور الكثيرون. نحن البر همنا ونفهمه آتيا من قيامة المخلص إذا حلّت فينا.
يجب ان تفهم كل ممارساتنا كالإمساك عن طعام انه سبيل إلى الله لسبب كوننا نطلب الطعام الإلهي. الجسد مستقر لله. لذلك لا نستخف بالصوم قائلين ما الجسد. الجسد مقر المسيح. لذلك نهذبه مع النفس ليقوى في خدمته لها.
ليس عندنا في الكنيسة نظام طعامي. كل جهد موجه إلى انتصار النفس في جهادها لرؤية الله. ولكننا جديون في فهم الجسد، في كونه مقراً لله ويرتفع الله فيه. نحن نعرف الجسد مدعواً إلى المجد أي إلى مجده في المسيح. لم يكن المسيح نفساً فقط. كان جسداً ومات وقام في الجسد. وليس أحد مثلنا يقيم وزناً للجسد اذا سار وراء الله.
ليس عندنا شيء ضد اللحم. نحن نذهب إلى ما فوق الجسد، إلى رؤية وجه الله. نطلب الروح الإلهي ليسكن أجسادنا ونرى الجسد مقراً للروح القدس.
الإمساك عن اللحم تربية وليس غاية. وفي الحقيقة ان الصوم في البدء ما كانت غايته التقشف بل توزيع ثمن الطعام الذي تمسك أنت عنه إلى الفقراء. لا الخضار تقربك إلى الله ولا اللحم يبعدك عنه. على هذا الصعيد كل شيء رياضة إلى ان يملك الله جسدك. نحن ليست لنا عداوة مع البدن وهو هيكل الروح القدس كما يعلّم بولس. اذا كانت الغاية الاتحاد بالمسيح فكل ما كان إليه وسيلة.
ليس الصائم ان لم يكن عفيفاً قريباً من الله. أنت في هذا الموسم تدخل اذاً في رياضة كبيرة للنفس أي تبتغي عفتها، استقلالها عن الزائلات في الفكر والمحسوس. نحن المسيحيين نطمح ان نكون إلهيين ليس أقل من ذلك أي أحراراً من الجسد ومن الخضوع للطعام وللنزوة. كيف يتم استقلالنا من هذا الجسد ونحن فيه هذا هو سؤال حياتنا.
نحن لا نصوم لنتحرر من الجسد ولكن من الشهوة وهي من النفس. من لم يفهم انه يمسك فقط محبة بالله أضاع كل جهده في الصيام. سؤال الصائم الوحيد هو هل أنا أصوم ابتغاء وجه الله؟ الإمساك عن الطعام وسيلة ممكنة لترى وجه الله وحده. الله حر من أشياء هذا العالم ومنا. أما أنت فموجود به. في أية لحظة تتحرر منه تموت. بلا إله دائم أمام عينيك أنت واقع في العدم.
النهار