والتّعاون على البرّ، والتّقوى، في النّطاق الاجتماعيّ[1].
إنّ قصّة ابني آدم كما ترد في القرآن مهمّة جدّا في هذا السّياق، إذ لمّا همّ أحدهما بقتل أخيه وقال له الثّاني: “لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديّ إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين” (المائدة: 28). يذكّرني ذلك بقول السّيّد المسيح: “من ضربك على خدّك الأيمن در له الأيسر”.
وقد كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن الجهاد والمجاهدين. إلاّ أنّ علاماء الإسلام يعرفون أنّ الجهاد الحقيقيّ له أدبه وأصوله، فهو عندهم، ليس قتلا بدون محاربة، كما لا يجوز رفع السّيف على إنسان لم يقاتل ولم يرفع سيفا. فالقرآن يقول: “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة 8…)؛ وثمّة نوع آخر من الجهاد: “الشّاخص في طلب العلم كمجاهد في سبيل الله” (حديث مروي عن عليّ)[2]. كما أنّ الشّريعة الإسلاميّة في الأصل سمحة وسهلة؛ وقال الإمام الباقر: “لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلاّ أخذت باليسير، وذلك لأنّ الله يسير ويحبّ اليسير ويعطي على اليسير ما لا يعطي على العنف”[3].
بَيْد أنّ الواقع لا يسير دائما على هذه القاعدة. فتاريخ الفتوحات الإسلاميّة التي استمرّت أكثر من مئة عام في الحقبة الذّهبيّة، وشملت الإستيلاء على ثلث العالم المتحضّر آنذاك ربّما تتطلّب شرحا وافيا ومقنعا من أصحاب الشّأن، لتوفيقها مع ما يدعو إليه القرآن الكريم. وثنائيّة دار الإسلام ودار الحرب نظريّة لا ندري إذا كانت لم تزل مرعيّة الإجراء في الفكر الإسلاميّ المعاصر. وهي تُعزى إلى القرنين الثّامن والتّاسع للميلاد، حين ظهرت المدارس الفقهيّة الكبرى. فبالنّسبة إلى الفقهاء الثّلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، علّة مشروعيّة القتال العدوان أو الخوف منه، ويبدو أنّ الشّافعيّ تلميذ مالك قد انفرد بالقول إنّ علّة القتال أو مشروعيّته الكفر. فكلّ دار يسود فيها الكفّار تجوز مقاتلتها. ونحن نعلم أنّ مالكا ما يقرّ مثل هذا القتال. وأنّ سفيان الثّوريّ أحد أئمة المسلمين (97هـ161- هـ) والمتصوّف الفضيل ابن غيّاض (107هـ187- هـ) كانا يريان أنّ العبادة أفضل من الجهاد. وفي مطلع القرن العاشر الميلاديّ على وجه التّقريب، كتب الطّبريّ المؤرّخ المعروف ومفسرّ القرآن جزءا في الجهاد وأحكام الحرب والسّلم. ومن الواضح أنّ الفرس والبيزنطيّين كانوا يسيطرون على أطراف الجزيرة. وإذا قلنا إنّ المسلمين الأوائل حرّروا تلك الأطراف، فكيف نشرح ونبرّر احتلالهم مصر وأفريقية الشّماليّة وبلاد الأندلس وسردينيا وصقلية وآسيا الوسطى والقوقاز[4].
أمّا اليوم، فثمّة مناخ من العنف يطبع المسلمين. وهنا لا أعمّم. بيد أنّي أنقل الواقع الذي بات يعرفه القاصي والدّاني. هناك عنف في اللهجة، والمفردات، والخطاب الدّينيّ، والخطاب السّياسيّ، وفي أشكال السّلوك والتّصرّفات. وماذا نقول في العنف المسلّح، والاغتيالات، وتفجير السّيارات المفخّخة، والخطف، والتّعذيب، والذّبح، وقطع الرّؤوس… والاسترهان… ونسف السّفارات والمؤسّسات. هذا ما يشاهده الجميع على شاشات التّلفزة وما يتداول به على طول صفحات التّواصل الاجتماعيّ. ممّا يثير الخوف والرّعب والتّرهيب في قلب الآخر المختلف، وممّا يشوّه صورة الإسلام في العالم.
فعندما تنجح الجماعة الدّينيّة في أن تكون مذهبا دينيّا، تسارع إلى العمل على تقوية آليّة جهازها الإيديولوجيّ القمعيّ غير التّسامحيّ لضمان استمراريّة من انتمى إليها، وتستخدم في هذا آليّات عديدة منها: الرّدّة، التّكفير، الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، القتال والإكراه على الاستمرار في العضويّة، التّحقير والتّهذيب…[5]. إنّه الواقع الإسلاميّ المرير في الكثير من الدّول العربيّة والإسلاميّة. فيا ليتهم يقرأون ما قاله ابن رشد: إنّ “أكبرعدوّ للإسلام جاهل يكفّر النّاس”.
لسنا بوارد الوقوع في الإسلاموفوبيا كما يروّج البعض. إلاّ أنّنا كمسيحيّين مشرقيّين ينتابنا الخوف ممّا نرى أحيانا، وممّا نسمع. فقد تحدّثت بعض الصّحف التّركيّة[6] منذ فترة عن ترميم دير مهجور يعود الى القرن الخامس في اسطنبول وتحويله إلى مسجد[7]، بينما يثير مشروع لتحويل كاتدرائية آيا صوفيا مسجداً، جدلا كبيرا. ناهيك عمّا يحدث في سوريّا والعراق ومصر…
ربّما يكمن جزء من مشكلة المسلمين مع المسيحيّين، في عدم معرفتهم جيّدا للعقائد الإيمانيّة المسيحيّة ولا يحاولون أن يعرفوها. وقد تكون مشكلة المسيحيّين مع المسلمين، في أنّ الإسلام يصل إليهم مشوَّها على يد بعض المتشدّدين العنفيّين. إلاّ أنّ اللاهوت المعاصر، قد اعتمد أسلوبا جديدا للوصول إلى الآخر المختلف؛ إذ لم تعد مهمّة اللاهوت تحويل النّاس إلى المسيحيّة بل حملهم على الاهتداء إلى المسيح. كما أنّ على المسلمين محاولة صياغة فِقههِم بلغة جديدة مقنعة، ليصل الى الأجيال الجديدة المسلمة بثوب جديد، انطلاقا من مبدأ “لا إكراه في الدّين”.
[1] راجع، سعود المولى، في الحوار والمواطنة…، ص. 465 [2] المصدر نفسه، ص. 475. [3] راجع، سيّد عطاء الله مهاجراني، التّسامح والعنف في الإسلام، (ترجمة: سالم كريم)، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت-لبنان، 2001، ص. 44. [4] راجع، رضوان السّيّد، العنف الدّينيّ تجاه الآخر، وقائع المؤتمر السّابع والثّلاثين… ص. 59-64. [5] راجع، أبو بكر أحمد باقادار، العنف الدّينيّ من الدّاخل…، ص 53-57. [6] صحيفة “حريت دايلي نيوز” وهي تصدر بالانكليزية. [7] دير ستوديون. تأسّس عام 462 وهو من أهمّ الأديار في القسطنطنيّة.الأب فرنسوا عقل / زينيت