ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس أحد تذكار الموتى في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطارنة بولس الصياح، حنا علوان وعاد ابي كرم، الاب ايلي الخوري، في حضور عائلة المرحوم كميل غياض وحشد من المؤمنين.
العظة
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان “عندهم موسى والانبياء، فليسمعوا لهم” (لو 16: 29)، قال فيها:”الخلاص الأبدي والهلاك حقيقتان مرتبطتان بسماع كلام الله الذي تبلغناه بلسان الأنبياء، وبترجمته أفعال محبة لله وللانسان عملا بالوصايا الإلهية التي سلمنا إياها الله على يد موسى. عن هاتين الحقيقتين غير المنفصلتين والمتكاملتين كان جواب ابراهيم، ابي المؤمنين، لذاك الغني المعذب في لهيب الهلاك، والذي طلب إرسال لعازر إلى إخوته الخمسة لكي يرشدهم إلى تغيير مسار حياتهم لئلا يأتوا هم أيضا إلى مكان الهلاك، قائلا له: “عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا لهم” (لو16: 29). إن تعليم موسى والأنبياء هو اليوم في عهدة الكنيسة المؤتمنة على إعلان كلام الله ووصاياه إلى جميع الناس، والشاهدة لها في حياة أبرارها وقديسيها ومؤمنيها الملتزمين، وفي أفعال المحبة من قبل الأفراد والجماعات والمؤسسات”.
أضاف: “تحيي الكنيسة في هذا الأحد تذكار الموتى المؤمنين، من أبنائها وبناتها. فتخصص هذه الذبيحة الإلهية وصلاة وضع البخور لراحة نفوسهم، وكذلك طيلة هذا الأسبوع. فموتانا، ولا سيما شهداءنا، الذين عاشوا إيمانهم مصحوبا بأعمال المحبة، وتلطخوا بالخطايا في مسيرة الدنيا، إنما يعيشون فترة عذاب يطهرهم من أدناس خطاياهم، ويؤهلهم لمشاهدة وجه الله القدوس. ولذلك هم بحاجة إلى صلاتنا وتقديم ذبيحة القداس كفارة عنهم والقيام بأعمال المحبة والرحمة، وعيش حياة مسيحية صالحة من أجل التماس الراحة الأبدية لهم. وهم سيكونون شفعاءنا أمام عرش الله في مجد السماء”.
وتابع: “أود أن أذكر معكم، في تذكاره السنوي، المرحوم كميل غياض الذي خدم في هذا الكرسي البطريركي، وما زال من خلال عائلته، منذ تهجيرهم من بيت الدين سنة 1983. إن ذكرى خدمته المحبة والمخلصة والصامتة، التي دامت إحدى وثلاثين سنة، تبقيه حيا في خواطرنا وفي صلاتنا وقلوبنا. إننا نعزي زوجته وأولاده وسائر أنسبائهم الحاضرين معنا، ملتمسين لهم العزاء، وله الراحة الأبدية في سعادة السماء”.
وقال: “لم يكن هلاك الغني بسبب غناه، فالغنى وثروات الأرض عطية من الله؛ بل هلك بسبب سوء استعماله لعطية الله. فبدلا من أن تكون وسيلة لمحبة الله وحفظ كلامه ووصاياه، وللنمو في الاتحاد به وفي القيم والأخلاق الإنسانية، وبدلا من أن يتقاسمها مع لعازر الفقير، لكي يخرجه من حالة البؤس، فقد جعلها غاية حصرها بنفسه، متنعما في لباسه وغنى مائدته، ومتجاهلا تماما الإنسان المنطرح أمام باب دارته، والمكسي بالقروح”.
أضاف: “هذا التصرف السيء الذي استوجب هلاكه إنما يعود إلى عدم سماع كلام الله، وعدم الإيمان به وبوصاياه ورسومه، وإلى إغلاق قلبه عن المشاعر الإنسانية، وإمساك يده عن العطاء وسخاء التقاسم.
فلنتذكر ذاك العالم بالتوراة الذي سأل يسوع: “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فأجابه يسوع: ماذا كتب في التوراة؟ وكيف تقرأ؟ فقال: أحبب الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك وكل فكرك. وأحبب قريبك كنفسك. فقال له يسوع: بالصواب أجبت. إفعل هذا فتحيا” (لو 10: 25-28؛ تثنية 5: 6؛ أحبار 19: 18). خلاصنا مرتبط بممارسة هذه المحبة بكل مقتضياتها”.
وتابع: “الغني يمثل كل واحد منا، مكتف ماديا أو روحيا أو معنويا أو ثقافيا ويمثل بشكل خاص كل صاحب سلطة ومسؤولية في الكنيسة والمجتمع والدولة، لكونه مؤتمنا على قدرات عامة متنوعة هي بحد ذاتها وسائل للمساعدة وإنماء الشخص البشري والمجتمع والبيئة.
صاحب السلطة السياسية والإدارية مؤتمن على قدرات الدولة ومالها العام ومرافقها ومؤسساتها. فمن واجب مسؤوليته أولا وآخرا تأمين الخير العام، الذي هو مجمل أوضاع الحياة، بالنشاط التشريعي والإجرائي والإداري والاقتصادي والقضائي والأمني، فيتمكن المواطنون والجماعات من العيش بكرامة، ومن تحقيق ذواتهم تحقيقا أفضل (شرعة العمل السياسي، ص6)”.
أضاف: “لكن الخير العام الاساسي لحياة الجماعة الوطنية انما هو المصالحة الشاملة بين مكوناتها. واننا على هذا الاساس نبارك المصالحة السياسية التي جرت منذ اسبوعين بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. ونرجو ان تكون مدخلا لمصالحة تشمل جميع فئات المجتمع اللبناني والكتل السياسية والنيابية، من اجل خير الجميع وخلاص الوطن.
لقد أصبح من غير المقبول عندنا في لبنان بأي شكل من الأشكال تعطيل المؤسسات العامة الموجودة شرعا من أجل تأمين الخير العام، وتعطيلها بهذا التمادي في حرمانها من رأسها الذي هو رئيس الجمهورية والذي يعطي شرعية وحياة لها كلها. فليس من مبرر واحد، بعد إعلان المرشحين للرئاسة الأولى، لتعطيل الجلسات الانتخابية التي يجب عقدها وفقا للنظام الديمقراطي والدستور والميثاق الوطني، بعد سنة وثمانية أشهر من الفراغ في سدة الرئاسة، وقد نتج عن هذا الفراغ غير المبرر شرعا تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، وقهر المواطنين بالفقر والحرمان، وإقحام شبابنا الطالع وخيرة قوانا الحية إلى الهجرة. وما يحزننا بالأكثر هو التمادي في نقض قاعدة الميثاقية في وظائف الوزارات والمؤسسات العامة، بعد نقضها على مستوى رئيس الجمهورية المسيحي الماروني. وهذه كلها نتائج التغييب لرأس الدولة الذي وحده يقسم اليمين على حماية الدستور والميثاق الوطني ووحدة الشعب والعيش المشترك. إننا نناشد دولة رئيس الحكومة تأمين هذه الحماية. فما أجمل أن نعيش معا بفرح التعاون والتكامل، من أجل خير الجميع. وهذا ما يشكل ميزة لبنان!”
وتابع: “الفقير هو كل واحد منا، سواء كان فقيرا ماديا أو روحيا أو معنويا أو ثقافيا. هذا الفقير يحتاج إلى أعمال رحمة أكانت جسدية أم روحية، كما يعددها قداسة البابا فرنسيس في كلٍ من براءة الدعوة إلى “يوبيل الرحمة”، ورسالته بمناسبة الصوم الكبير.
فأعمال الرحمة الجسدية هي: إطعام الجائع، وسقي العطشان، وإلباس العريان، واستقبال الغريب، والعناية بالمريض، وزيارة السجين. وأعمال الرحمة الروحية هي: إرشاد العائشين في الشك، وتعليم الجهال، وتنبيه الخطأة والضالين، وتعزية الحزانى، ومغفرة الإساءات، واحتمال الأشخاص، والصلاة إلى الله من أجل المرضى والأموات. على كل هذه الأعمال سنُدان في مساء الحياة (راجع متى 25: 31-45) (براءة “وجه الرحمة”، 15؛ رسالة الصوم، 3)”.
أضاف: “لقد تماهى الرب يسوع مع الفقراء ماديا وروحيا ومعنويا وثقافيا، وسماهم “إخوته الصغار” (متى25: 40). يكتب قداسة البابا فرنسيس في براءة يوبيل الرحمة “أن يسوع حاضر في كل واحد وواحدة من “الإخوة الصغار”. جسده يصبح من جديد منظورا، كجسد متألم، مجروح، معذب، جائع، وتائه، لكي نستطيع أن نعرفه، ونلمسه، ونعتني به” (فقرة 15؛ رسالة الصوم 3).
إن خلاص لعازر، بعد موته، لا يرد إلى فقره، بل إلى قناعته في حالته وقبول واقعه بصبر. واليوم نقول: خلاص المتألمين، بكل أشكال الألم، إنما يأتيهم من إشراك آلامهم بآلام المسيح الفادي، فتصبح أداة خلاص وفداء تغني الكنيسة والعالم. ولنا خير مثال في ذلك القديسة رفقا والقديسة تريز الطفل يسوع، رسولتا الألم الخلاصي والرسالي”.
وختم الراعي: “في تذكار موتانا وجميع الموتى المؤمنين، نرفع الصلاة إلى الله، مصحوبة بأعمال الرحمة الجسدية والروحية هاتفين من أجلهم: الراحة الدائمة أعطهم يا رب، ونورك الأزلي فليضىء لهم! فليستريحوا بسلام! آمين!”.
وطنيّة