حاضر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي في البرلمان الاوروبي في بروكسل عن نتائج الصراع الدائر في الشرق الأوسط على المسيحيين ومستقبلهم في حضور نواب البرلمان وقال:
“رئيس البرلمان الأوروبي، حضرات السادة المحترمين،انه لشرف كبير لي ان اخاطب جمعيتكم الكريمة اليوم في هذه المرحلة المضطربة التي تشهدها منطقتنا، وأتوجه اليكم بالشكر على هذه الدعوة. ان الأزمة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط اليوم لها انعكاساتها المباشرة ليس على المسيحيين وحسب وانما ايضا على الحوض المتوسطي وكذلك على اوروبا. ومصلحتنا المشتركة تكمن في ايجاد حلول لمختلف الصراعات التي تحدث في المنطقة. وبناء عليه فان محاضرتي تتضمن اربع نقاط.
أ – مسيحيو الشرق الاوسط
2 – عندما نتحدث عن مسيحيي الشرق فنحن لا نعني بذلك أشخاصا فقط، وانما نعني ايضا الكنائس الشرقية والكنيسة اللاتينية والتي لكل منها ارثها الليتورجي واللاهوتي والروحي الخاص بها والذي يتميز بالثقافة والظروف التاريخية للشعوب والذي تعبر عنه كل كنيسة باسلوبها الخاص من خلال عيشها للايمان المسيحي. هذه الكنائس لها طقوسها الخاصة المتحدرة من التقاليد الرسولية: الإسكندرية، الإنطاكية، الأرمنية، الكلدانية، القسطنطنية والرومانية.
3 – ان مسيحيي الشرق الأوسط هم اول من ورث الإيمان المسيحي. وفي انطاكيا سيرسل المسيح بالمسيحيين لأول مرة. والى هذه المنطقة ارسل الله ابنه من اجل خلاص البشر. وهكذا اصبحت المسيحية وبسرعة كبيرة عنصرا اساسيا في حضارة هذه المنطقة.
4 – ولكن وللأسف، فان مسيحيي هذه الأرض المقدسة وغيرهم من الشعوب اختبروا وبشكل مأساوي اقسى انواع الصراعات والحروب. ان صعود الأصولية الإسلامية ونمو المنظمات الإرهابية يهددان بمحو الإعتدال المسلم الذي عمل مسلمو ومسيحيو هذه المنطقة على بنائه معا منذ 1400 عام من الحياة المشتركة. والمسيحيون هم ضمانة هذا الإعتدال.
5 – وفي حديثنا عن الكنائس، نحن نتحدث ايضا عن المؤسسات الرعوية والاجتماعية: الرعايا، الأديار، المدارس والجامعات والمستشفيات، المراكز الإجتماعية المتخصصة حيث يعيش المسلمون والمسيحيون معا، كذلك هم معا في مختلف المجتمعات والمؤسسات الرسمية والخاصة. انطلاقا من هذا نرى ان الحضور المسيحي في قلب هذا العالم المسلم هو ضرورة حيوية للمحيط وللانسانية. فالمسيحيون والمسلمون يتبادلون قيمهم الخاصة الروحية والثقافية والاخلاقية والإجتماعية ويؤلفان معا هوية مشتركة كل في بلده.
6 – لهذا نحن نصر على ضرورة وقف الحرب والصراع وايجاد حلول سياسية وعودة كل النازحين واللاجئين الفلسطينيين والعراقيين والسوريين الى بلادهم الأصيلة للحفاظ على هويتهم. لا يجب ابدا تسليم هذه الارض للأصوليين وتركها ارضا مفتوحة للمنظمات الإرهابية. فهذا يهدد السلام في العالم. نحن ندعو الأسرة الأوروبية لممارسة تأثيرها على اعضاء مجلس الأمن لضمان عودة النازحين الى بلادهم والمساهمة في بناء عالم هادئ مستقر يعيش بسلام.
ب – نتائج الصراع على المسيحيين
7- لا أحد يمكنه تجاهل الخسارة التي تكبدها المسيحيون: الموت، الابعاد، الهجرة الجماعية، تدمير كنائسهم واديرتهم ومنازلهم. ولكن الخسارة الأكبر هي اضمحلال تأثيرهم في مجتمعاتهم وعلى الثقافات المحلية وذلك نتيجة للصراع والحرب. لطالما نشر المسيحيون التعايش والإنفتاح على الآخر والحريات والقيم الإنسانية والحقوق الاساسية والثابتة للكائن البشري وذلك بفضل الثقافة المسيحية المتجذرة في المنطقة وبفضل انفتاح المسيحيين على الغرب. لذلك اصبحوا رواد النهضة الثقافية العربية والعروبة كحضارة انسانية واجتماعية. فالعرب لا يعني الإسلام ومن يتحدث اللغة العربية لا يعني انه مسلم.
8 – لقد لعب لبنان دورا حاسما في هذا المجال وهو مدعو اليوم اكثر من اي يوم مضى الى تطوير هذا الدور. في الواقع هو البلد الوحيد في العالم العربي الذي يفصل بين الدين والدولة. انه يطبق النظام الديمقراطي ويعترف بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين على قاعدة المواطنة ويتميز بكون رئيسه مسيحي ماروني بحسب ما نص عليه الميثاق الوطني عام 1943. ووفقا لهذه الصفات يعتبر لبنان قبلة انظار مسيحيي الشرق الاوسط والمسلمين ولا سيما من هم من دول الخليج. ان القيمة الجيو سياسية للبنان هي في كونه بوابة اوروبا والغرب للعبور الى الشرق الأدنى والعالم العربي. انه ملتقى الحضارات ومكان عيش الحوار بين الأديان والحوار المسكوني.
ولكي يتمكن لبنان من البقاء مكان لقاء للتعايش والحوار نحن نتمنى ان تعلن الأسرة الدولية حياده لكي يكون في منطقته عنصر سلام وعدالة وحقوق الإنسان. وهذا ما يساعده على الإبتعاد عن التورط في محاور الحروب والصراعات الإقليمية والدولية.
9 – وبناء عليه فان لبنان مهدد بثقافته وهويته ورسالته وذلك مع وجود نحو نصف مليون لاجئ فلسطيني على ارضه التي تبلغ مساحتها 10452 كلم2 وهم يعيشون مزودين باسلحة ثقيلة وخفيفة في المخيمات وينتظرون ايجاد حل لقضيتهم منذ العام 1948 ولكن من دون جدوى، اضف اليهم نحو مليون ونصف المليون نازح سوري يزداد عددهم في كل عام من 40 الى 50 الف طفل حديث الولادة. وعددهم معا يوازي نصف عدد اللبنانيين اي نحو مليوني شخص.
هل تتصورون كم هو حجم هذا الثقل الإقتصادي والإجتماعي والثقافي. وكم هو حجم التهديد السياسي والأمني. هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون الحرمان والبؤس يمكن استغلالهم بسهولة جدا من قبل المنظمات الإرهابية اذا ما استمر الوضع على ما هو عليه.
ج – حلول فورية
10 – ان الأسرة الدولية والبرلمان الاوروبي مدعوان لإستخدام كل الوسائل بهدف:
أ – وقف الصراع والحرب وتطوير الحوار السياسي بين الأفرقاء المعنيين لتأمين الإستقرار وضمان احترام الإنسان وحريات المعتقد والعمل في كل بلدان المنطقة. فهذه ضرورة مطلقة. واذا تمتعت هذه المنطقة بسلام دائم يضمن هذه الحريات فهي يمكنها ان تقدم املا للمسيحيين في الشرق بمستقبل افضل وتشجعهم على البقاء في ارضهم والحفاظ على تأثيرهم الإيجابي.
ب – العمل بجدية وبذل جهد بهدف تحقيق المصالحة بين المملكة العربية السعودية وايران تسهيلا للمصالحة بين السنة والشيعة في كل بلد من بلدان الشرق الأوسط.
من الواضح ان اصل الصراع والحرب الذي يهز المنطقة يكمن في الصراع بين المملكة العربية السعودية وايران. هاتان القوتان الإقليميتان لكل منهما مصالحها الطائفية السياسية والإقتصادية والإستراتيجية. والمعروف ان لكل منهما حلفاء في الشرق والغرب.
نحن في لبنان نعاني نتائج هذا الصراع. في الواقع الصراع السياسي بين السنة والشيعة سبب الفراغ في سدة الرئاسة منذ سنتين. وكان الشلل على صعيد المؤسسات الدستورية والعامة والدولة اللبنانية من دون رئيس، فوضى على كافة المستويات.
ج – دعم اعادة بناء الدول وبناها الإقتصادية والعسكرية وذلك لملء الفراغ الذي يقود الى الفوضى والعنف ولا يخدم الا المتطرفين.
د – المساعدة على تشكيل مجموعة اقتصادية شرق اوسطية قادرة على فتح آفاق تطور اجتماعي اقتصادي في وقت السلم وتمتين استقرار المنطقة وعدم ترك شرق المتوسط كمشكلة منسية بالنسبة لأوروبا. وبنفس الطريقة التي بنى فيها الإتحاد الأوروبي السلام الدائم في اوروبا هكذا يمكن مع ايجاد مجموعة اقتصادية مزدهرة تقوية السلام في الشرق الأوسط.
ه – تجنب ان يكون الحل في الشرق الأوسط قائما على التقسيم في الوقت الذي يتوجه فيه العالم نحو العولمة. يجب العمل على تثبيت بلاد حق ومؤسسات حكومية ومدنية تضمن التعددية والحريات وتتمتع بديمقراطيات صحيحة. هنا يكمن الحل. وهذه البلاد يمكنها التعاون فيما بينها من خلال تطور اجتماعي اقتصادي بهدف تدريب انسان قادر على ان يكون صانع سلام في المنطقة.
و – العمل لتطبيق قرارات مجلس الأمن والإتفاقيات الثنائية لحل مشكلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من جهة وذلك من خلال انشاء دولة فلسطين تعيش جنبا الى جنب مع اسرائيل وبعودة النازحين ومن جهة اخرى الصراع الإسرائيلي العربي بانسحاب الفرق الإسرائيلية من الاراضي المحتلة في فلسطين ولبنان وسوريا. في الحقيقة ان تطبيق الحق الدولي وقرارات مجلس الأمن هو الطريقة الأفضل لتأمين استقرار المنطقة وتجنب تداعياتها.
د – حل طويل الأمد
11 – ان الدين الإسلامي يمثل احدى اهم مكونات الأسرة البشرية. على الأسرة الدولية احترام القيم الدينية والاخلاقية والإجتماعية للإسلام، ومساعدته ليخطو الخطوة التي قامت بها المسيحية وهي فصل الدين عن الدولة بشرط ان تحترم الدولة واجبات الديانة. لبنان يقدم مثالا في هذا الخصوص. انه يفصل الدين عن الدولة ولكنه يحترم كل الديانات والمجموعات الطائفية والدولة اللبنانية لا تشرع ما يسيء الى الأديان. وعلى قاعدة هذا التفريق تم زرع المساواة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان. وهذه المساواة غير موجودة بجوهرها الحقيقي في باقي الدول في المنطقة التي تعتمد النظام السياسي الديني حيث دين الدولة هو الإسلام والقرآن هو مصدر التشريع. من هنا عدم المساواة بين المسيحيين والمسلمين على صعيد حقوق المواطنة في هذه البلاد.
12 – الإسلام مدعو لأن:
أ – يتحرر من الأصولية ومن العودة الى رسالة الشريعة اي الرسالة التي تتخطى تعليم القرآن.
ب – الدخول الى عالم العصرية بأوجهه الإيجابية والإنفتاح على القيم التي تقدمها العولمة لتأمين تطور البلاد.
ج – تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتطبيقه لضمان خير جميع المواطنين في البلدان من دون تمييز بين العرق والدين واحترام كل كائن بشري.
وختم: “اجدد شكري على هذه الدعوة متمنيا ان تتمكن اوروبا من ان تكون زعيما للانسانية في العالم والمساهمة فعليا في خلق عالم افضل”.
وطنية