البطريرك الماروني يكرّم شهداء المقاومة اللبنانية
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في اليوم الثاني لزيارته الرعوية لبلدات لحفد وميفوق وجاج في قضاء جبيل، قداسا احتفاليا في كنيسة سيدة إيليج، سلطانة الشهداء في ميفوق – القطارة، بدعوة من “رابطة سيدة إيليج”، بعنوان “كنيستنا شهداؤنا مجد لبنان الكبير”، لمناسبة مئوية لبنان الكبير وتكريما لشهداء المقاومة اللبنانية الذين سقطوا دفاعا عن لبنان السيد الحر المستقل، عاونه راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون ورئيس دير القطارة الاباتي انطوان خليفة ورئيس دير سيدة ميفوق الاب يوسف متى ولفيف من الكهنة والاباء.
في بداية القداس، ألقى المطران عون كلمة رحب فيها بالراعي وقال: “جرت العادة يا صاحب الغبطة ان يتم الترحيب بغبطتكم عندما تقومون بزيارة الى ابرشية او كنيسة، ولكنكم في هذا المكان المقدس في ارض اسلافكم البطاركة القديسين انتم من ترحبون بنا، لأنكم صاحب الدار وانتم تحملون هذا التاريخ من البطاركة والقديسين الذين بشهادة حياتهم لا نزال اليوم محافظين لهم”.
وتابع: “تطئون ارض ابرشية جبيل التي ترغب في كل مرة تزرونها ببركتكم الابوية، انتم الذين خدمتم هذه الابرشية على مدى أعوام، احبتكم واحببتموها وفي كل مرة تأتون اليها نعيش بفرح كبير لاننا مع البركة التي تحملون الينا، نشعر كيف ان الراعي يسهر على رعيته ويزورها، وفي هذا اليوم المقدس نحتفل بالذبيحة الالهية على نية الشهداء الذين رووا بدمائهم هذه الارض والذين بفضل شهادتهم وتضحياتهم وتضحيات الكثيرين لا نزال في وطننا، الذي نأمل بأن يبقى ونرجو أن يبقى وطن الحرية والرسالة، الوطن الذي نشهد فيه لإيماننا وتعلقنا بالرب وبحريتنا”.
وختم: “نشكر مجيئكم يا صاحب الغبطة، اذ تباركون هذه الارض وابرشيتها وهذا الجمع الحاضر، ونرجو بصلواتكم وبركتكم ان يبقى لبنان في رسالته امام كل التحديات التي تواجهه شاهدا على أمانة الرب في تاريخه، ونبقى بدورنا أمناء لهذا الكنز الذي اؤتمنا عليه”.
العظة
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان “هل تستطيعان ان تشربا الكأس التي اشربها انا؟”، قال فيها: “أكد الرب يسوع، بجوابه إلى مطلب يعقوب ويوحنا، أن طريق المجد السماوي تمر عبر الصليب، المعبر عنه “بكأس الألم ومعمودية الدم”. ففي زمن الصليب، الذي بدأناه أمس، يذكرنا الرب يسوع بأن دعوتنا المسيحية ورسالتنا تقتضيان السير على خطاه، بحمل صليب الفداء، وهو سير قائم على الموت عن الذات مع المسيح المصلوب، والانفتاح على قيامته باعثة الحياة الجديدة، هذا النهج سلكه بطاركتنا الأبرار، ولاسيما العشرون بطريركا، الذين عاشوا هنا في مقر سيدة إيليج، من البطريرك بطرس الأول سنة 1120 إلى البطريرك يوحنا الجاجي الثاني الذي نقل الكرسي البطريركي إلى قنوبين سنة 1440. وقد ناضلوا جيلا بعد جيل، وهم يقودون شعبهم الماروني من أجل الأغليين حماية الإيمان والاستقلال الحر”.
أضاف: “هذا النهج تبعه شهداؤنا الذين أراقوا دماءهم دفاعا عن المسيحيين ولبنان، في الحرب الأخيرة التي اندلعت في 13 نيسان 1975، عدد كبير من هؤلاء الشهداء يرقدون هنا في ظل سيدة إيليج، ونكرمهم في غابة الأرز التي ترمز إلى خلود ذكراهم، وإلى إكليل مجدهم في السماء، ونقدم لراحة نفوسهم وعزاء أهاليهم هذه الذبيحة المقدسة ، إن القول المأثور: “ماتوا لنحيا”، يقتضي منا التزاما مضحيا في سبيل لبنان بكيانه وشعبه ومؤسساته، بعيدا من النزاعات الداخلية والمصالح الشخصية والفئوية، وعن المساومة في شأن الوطن وأولويته واستقراره وكرامته، ولا ننسى في صلاتنا الشهداء الأحياء الذين يحملون في أجسادهم علامات تضحياتهم من اجل لبنان، وهي علامات المسيح الفادي الذي تتواصل الآمه في الآمكم أيها الاحباء. انتم لنا علامة تدعو إلى الدفاع عن أرضه”.
وتابع: “يسعدني وسيادة راعي الأبرشية المطران ميشال عون، وإخوتنا الكهنة ان نقوم بهذه الزيارة الراعوية التقوية الى سيدة ايليج، اننا نحييكم جميعا ولاسيما رئيس دير سيدة ميفوق ورئيس دير مار شليطا القطارة والآباء أبناء الرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة الذين يحافظون على هذا الإرث البطريركي النفيس ويحيون فيه الحياة الليتورجية وخدمة النفوس. ونود أن نشكر معكم رابطة سيدة إيليج” التي تدعو إلى هذا القداس الإلهي وتنظمه، وتعنى بغابة الأرز ومدافن الشهداء”.
وقال: “زمن الصليب يحمل بعدين: الأول مسيرة الكنيسة، برعاتها ومؤمنيها ومؤسساتها، وسط المحن والاضطهادات والصعوبات والتضحيات. لكنها تجد في صليب المسيح قوتها ورجاءها وعزاءها، على ما قال القديس أغسطينوس: “الكنيسة تسير بين اضطهادات العالم وتعزيات الله”. والبعد الثاني هو واقع النهايات، وعالم ما بعد التاريخ. ونعني الموت ونهاية الأزمنة ومجيء المسيح بالمجد والدينونة الخاصة والعامة والخلاص و الهلاك الأبديين. هذان البعدان يشكلان مواضيع أناجيل الآحاد طيلة زمن الصليب. عندما طلب الرسولان يعقوب ويوحنا أن “يجلسا عن يمين الرب ويساره في مجده” صحح يسوع نظرتهما، مبينا لهما أن طريق المجد تمر بالطريق الذي سلكه هو أمامهم، وهو “كأس الألم، ومعمودية الدم”. وقد دعانا بولس الرسول للسير وراء المسيح في هذا الطريق، إذ كتب: “تخلقوا، أيها الإخوة، بأخلاق المسيح الذي، وهو الله، لم يحسب ألوهته مكسبا، بل أخلى ذاته، متخذا صورة الخادم، وصار على مثال البشر، فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العلى…” (فيل2: 5-11)واعطاه كل مجد فوق كل امجاد. في الواقع سلك يعقوب الرسول، أسقف أورشليم، طريق الآلام إذ مات شهيدا، وكان الشهيد الأول بين الرسل الإثني عشر. ويوحنا الرسول أخوه مات منفيا في جزيرة بطمس بعد جميع الرسل”.
أضاف الراعي: “إن بطاركتنا بعامة، وأولئك الذين عاشوا هنا في مقر سيدة إيليج بخاصة، سلكوا الطريق إياه: نذكر من بينهم دانيال الشاماتي (1230-1239) الذي أكرهته الاضطهادات على الانتقال إلى كفيفان ثم إلى كفرحي؛ ودانيال الحدشيتي (1282) الذي واجه الجيوش الجرارة المملوكية وأخاف سلطان سيف الدين قلاوون، حتى قبضوا عليه بالحيلة؛ والبطريرك لوقا من بنهران في الكوره (1282-1297) الذي ناضل بوجه المماليك عند اقتحامهم جبة بشري، وأنزلوا بها قتلا ونهبا وتدميرا؛ والبطريرك شمعون (1297-1339) الذي واجه هجوم جيش السلطان المملوكي على بلاد كسروان، فاستنجد البطريرك بمقدمي لحفد ومشمش وإيليج والعاقورا وحردين، وأنزلوا بهم الهزيمة؛ والبطريرك الشهيد جبرايل من حجولا (1357-1367) وقد سلم نفسه لنائب السلطان المملوكي في طرابلس من أجل تحرير الأساقفة والرهبان الذين قبض عليهم وزجهم في السجن. فأعدمه النائب السلطان المملوكي حرقا وهو حي في ساحة طرابلس؛ والبطريرك يوحنا الجاجي (1404-1445) الذي ألزمه العسكر المملوكي على هجر سيدة إيليج واللجوء إلى وادي قنوبين”.
وتابع: “هؤلاء البطاركة حلقات في سلسلة لم تنقطع على الرغم من محاولات كسر هذه الحلقات في مسيرتهم الرامية إلى حماية الإيمان الكاثوليكي والاستقلالية والحرية ، حتى وصلوا إلى مبتغاهم مع المكرم البطريرك الياس الحويك “بإعلان دولة لبنان الكبير” في أول أيلول 1920. وها نحن نستعد للاحتفال كنسيا ومدنيا بالمئوية الأولى لهذا الإعلان. إننا سنعود فيها مع اللجنة البطريركية واللجنة الوطنية إلى الجذور، إلى فلسفة الصيغة اللبنانية التي هي المواطنة المدنية بدلا من المواطنة الدينية، والتعددية الدينية والثقافية في الوحدة، بدلا من الأحادية، والعيش معا كمسيحيين ومسلمين بالتعاون والمساواة والاحترام المتبادل، وإقرار جميع حقوق الإنسان الأساسية والحريات العامة، والنظام الديموقراطي الليبرالي. ونأمل بأن تشكل العودة إلى فلسفة الصيغة اللبنانية مناسبة فريدة لكي نصحح في ضوئها الواقع الحاضر، ونخطط لمستقبل أفضل”.
وختم الراعي: “إنا غداة عيد الصليب، نجدد إيماننا بقوته الخلاصية، ونرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.
ابو شبل
وبعد القداس، ألقى رئيس أبو شبل كلمة قال فيها: “يا من مشيتم درب الشهادة فتحققت بكم مشيئة الرب بأن تكونوا شهودا أحياء للحق والبطولة والإباء والعنفوان. منذ اضطرار الموارنة للهجرة إلى جبال لبنان بسبب الاضطهاد، وبطاركتنا يقودون مسيرة حرية الإنسان في هذا الشرق، وقضيتهم هي أن تصان حرياتنا، في أعماقها وأبعادها، ويتأمن أمننا، وتقوم مساواة سياسية وقانونية فعلية حقيقية كاملة بيننا وبين مواطنينا من غير المسيحيين، أيا يكن عدد هؤلاء وأولئك، وأن نبقى بعيدين كل البعد من أي لون تتوسله الذمية مخرجا احتياليا تنقض علينا بواسطته”.
أضاف: “استطاعوا مع البطريرك الياس الحويك الوصول إلى تحقيق هذا الهدف وإنشاء دولة لبنان الكبير، الدولة الديموقراطية الوحيدة التي تضمن حرية المعتقد في بحر دول القهر والقمع الممتدة من المحيط إلى الخليج، فاستحقوا مجد لبنان، لبنان القيم والحضارة، لبنان التعدد والتنوع، لبنان الحياة المشتركة بين كل أبنائه، مسلمين ومسيحيين، لبنان الإنسان الحر، منذ 16 قرنا ولغاية اليوم والقضية ذاتها، من أجلها أهرقت الدماء وقدمت التضحيات وبكت الأمهات وهجرت العائلات ودمرت القرى والبلدات”.
وتابع: “سبق أن أفشلت المقاومة اللبنانية في العام 1975، بوحدتها وصمودها وحلمها أهداف الاعتداء على لبنان الكيان وتفريغه من جوهر وجوده، إلى أن تشتتنا وانقسمنا وتقاتلنا حتى كدنا أن نهدم خلال بضع سنوات ما بناه أجدادنا واستشهدوا من أجله وعجز عن تحقيقه غزاة وفاتحون في قرون عديدة، فآن الأوان أن نعي خطورة المصير الذي نتجه إليه بسبب إنقسامنا، ولقد آن الأوان للعمل على وحدة حقيقية لمجتمعنا وبذل الجهود من أجل تنقية حقيقية للذاكرات والضمائر واستخلاص العبر من تجارب الماضي المريرة، فالعهود التي تقوم على المواسم ترحل مع المواسم، بذورها وهم وحصادها فراغ. آن الأوان لكي نقر بالهواجس بلا خجل ونسترد الحقوق بلا تسكع والدور بلا ارتهان”.
وتوجه الى الراعي بالقول: “نطقت بإسم كل مسيحي مخلص حين قلت: “نسأل الرب أن يذكي فينا فضيلة التواضع وروح المقاومة حفاظا على إيماننا المسيحي وعلى وطننا لبنان”، نحن أبناؤك المتجمعون هنا، ندعو اليوم كافة اللبنانيين مسلمين ومسيحيين إلى خوض مقاومة حضارية سلاحها المحبة، تليق بإحترام قيمنا وتطلعاتنا جميعا، مقاومة الجهل والشر، واللامبالاة أمام آفات تجتاح مجتمعنا لتدمره من الداخل وتهدد وجوده في حرب هي أخطر من كل الحروب ، مقاومة إنهيار القيم وتفكك العائلات، التعصب، الأنانية، التسلط والفساد، شعب الكنيسة والبطريرك نحن، قادنا بطاركتنا كخراف بين الذئاب كما تفعل اليوم، وكما كان أجدادنا من قبلنا، ستبقى البطريركية العامود الفقري لوجودنا وهي المعبرة عن هواجسنا وتطلعاتنا، وستبقى توجيهاتك منارتنا اليوم وكل يوم”.
والى الاهل والرفاق قال: “لن ندع اليأس يتسرب إلى العقول والنفوس، نحن مدعوون لنكون على غرار شهدائنا الذين هبوا للدفاع عن القيم التي يجسدها لبنان عندما تعرضت للخطر، وكلما حاول البعض الدوس عليها سوف ندافع عنها ونتمسك بها أكثر فأكثر، فعلى الرغم من تعاظم المصاعب والمخاوف، خيارنا الصمود في أرضنا، خيارنا المقاومة وسننتصر بالحفاظ على لبنان ودوره ورسالته. بحق دماء الشهداء وعرق الرفاق ووجع المقعدين والجراح والآلام والدموع وأحلام أولادنا، فلننبذ الأحقاد ولنتوحد في خدمة القضية ونحيا في المحبة، فالله محبة، وبها غلب العالم بالمحبةإنتصارنا على الشر والخطيئة”.
وختم: “يا سيدة إيليج، يا أم الله وسلطانة الشهداء، نناجيك في هذا الزمن الحالك كما ناجاك أجدادنا من قبل فاستجبت لهم، نرجوك: إحفظي كنيستنا وشعبنا، أحضني شهداءنا، رافقينا في وادي هذا الشرق المظلم، معك لن تقوى علينا أبواب الجحيم، ساعدينا لنبقى على عهدنا من أجل حرية وكرامة الإنسان، كل إنسان، من أجل لبنان”.
بعد ذلك، قلد الراعي ميدالية سيدة ايليج الى المقاومة جوسلين خويري تقديرا لتضحياتها ومقاومتها في سبيل لبنان والانسان، ثم وضع يرافقه المطارنة والكهنة اكليلا من الغار على ارزة المثلث الرحمات البطريرك مار نصرالله بطرس صفير التي زرعها بنفسه في العام 2010، وإكليلا على أرزة سميت باسم المثلث الرحمات المكرم البطريرك الياس الحويك، ورفعت صلاة البخور في مدافن شهداء المقاومة اللبنانية.
أليتيا