وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي “رسالة الصوم الكبير ويوبيل سنة الرحمة”، جاء فيها:
“إلى إخواننا السادة المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات
والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وسائر أبناء كنيستنا المارونية وبناتها
في لبنان وبلدان الانتشار الأحباء،
السلام والبركة الرسولية
مقدمة
1.الصوم الكبير ويوبيل سنة الرحمة مناسبتان تشكلان “الزمن المقبول لدى الله”. فالصوم الكبير زمن مميز من السنة يهيئ المؤمنين للعبور الفصحي إلى حياة جديدة من خلال ثلاثة متكاملة: الصلاة وسماع الكلام الإلهي من أجل ترميم العلاقة الشخصية مع الله، والصيام والقطاعة من أجل ترويض الإرادة وترميم العلاقة مع الذات الإنسانية والمسيحية، وأعمال المحبةوالرحمةمن أجل ترميم علاقة الأخوة والتضامن مع الفقراء والمتألمين.
يوبيل سنة الرحمة يجعل من الصوم الكبير زمنا قويا للاحتفال برحمة الله، واختبارها وعيشها معه توبة وارتداد قلب، ومع الناس أفعال حنان وتضامن وغفران. وعبور الباب المقدس يرمز إلى رغبة في القلب والإرادة للبلوغ إلى الرحمة، ولالتزام أن نكون رحماء تجاه الآخرين، كما الله هو رحوم معنا.
مسيرة الصوم الكبير وعبور الباب المقدس في سنة الرحمة يذكراننا بأننا في حالة حج على وجه الأرض، وحالة مسافرين نحو هدف منشود، هو سعادة الحياة التي نجدها في الله، على ما كتب القديس أغسطينوس: “لقد خلقتنا لك يا رب. ويظل قلبنا قلقا ومضطربا حتى يرتاح فيك”.
الفصل الأول
الصلاة وسماع كلام الله
2. قبل أن يعبر الرب يسوع من حياته الخفية في الناصرة إلى حياته العلنية والبدء برسالته الخلاصية، لجأ إلى الصلاة والصوم أربعين يوما في البرية. فاستمع في أعماق قلبه إلى كلام المزامير والأنبياء، مكتشفا أكثر فأكثر إرادة الآب، وتمكن بقوة الكلام الإلهي من الانتصار على تجارب الشيطان الثلاث . والمزمور الذي كان يتلوه كل يوم “كلامك مصباح لخطاي ونور لسبيلي”، جعله يجد الكلام الإلهي الملائم للانتصار على كل واحدة من التجارب الثلاث.
“ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”، بهذه الكلمة الإلهية من كتاب تثنية الاشتراع، انتصر يسوع على تجربة إنهاء صومه بتحويل الحجارة إلى خبز، لكونه إلها قديرا. لم يستعمل يسوع قدرته هذه، لكي يواصل صيام التوبة والتكفير عن جميع خطايا البشر.
“مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك”، كلمة إلهية ثانية لجأ إليها يسوع من كتاب المزامير ، لكي ينتصر على تجربة العجب بالنفس، واستغلال جودة الله لمنافع شخصية فالشيطان لجأ في تجربته إلى كلام إلهي من كتاب المزامير: فإذا ألقى بنفسه من شرفة الهيكل إلى أسفل “يوصي الله ملائكته به، وعلى أيديهم يحملونه، لئلا تصطدم رجله بحجر”.
“للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد”، استلهم يسوع هذه الكلمة الإلهية من الوصية الأولى من وصايا الله العشر، للانتصار على تجربة الخيانة بعبادة آلهة غير الله، من أجل مكاسب ومطامح. فالشيطان وعد يسوع بإعطائه جميع ممالك الدنيا ومجدها إذا جثا ساجدا له.
3. لقد علمنا الرب يسوع الكثير في انتصاره على التجارب الثلاث:
بقوة الصلاة وسماع كلام الله، انتصر يسوع على تجربة إعلان نفسه إلها بعلامة حسية هي تحويل الحجر إلى خبز، لئلا يضحي بنهج إخلاء ذاته من أجل خلاص البشر. إنها تجربة الخبز والمال والسلطة، التي يتعرض لها عالمنا، مشككا بالله وبقدرته:”أين هو الله؟ ما هي قدرته أمام قدرة البشر؟” هكذا يتساءل المشككون عابدو خيرات الأرض والمال والسلطة. ويتساءلون:”ماذا تفعل لكم الكنيسة؟ إنها عديمة القدرة على سد حاجات الناس المادية، بل عديمة التأثير على السياسيين والإقطاعيين والرأسماليين.
“الجيل الشرير يطلب آية”. لكن الله، المتجلي في يسوع المسيح والكنيسة، جسده السري، لا يعرفان بالآيات الحسية بل بالإيمان والحب. إن أسياد الدول النافذين المتسلطين على شعوبهم، وغير الآبهين بحالات فقرهم وحرمانهم وتبددهم “مثل خراف لا راعي لها”، هؤلاء لم يحولوا الحجارة إلى خبز، بل على العكس أعطوا شعوبهم حجارة بدلا من الخبز.
أما يسوع فحول الخبز إلى جسده والخمر إلى دمه، طعاما سماويا يسند حياة البشر كل يوم، من أجل تعزيز عالم أفضل قائم على التضحية والمحبة والعطاء. فتكثر ثروات الأرض وتشبع جميع سكانها، جيلا بعد جيل .
قال الأب اليسوعي الألماني Alfred Delp، قبل أن يقتله النازيون:”الخبز مهم، والحرية أهم، أما ما هو أهم من الكل فهي الأمانة التي لا تخدع أبدا” .
ب. وعلمنا الرب يسوع، بانتصاره على التجربة الثانية، كيفية الانتصار على تجربة الادعاء والعجب بالنفس، التي تسمح للشخص بشرح كلام الله على هواه. فالشيطان المحتال لجأ إلى كلام إلهي في المزمور 91، لكي يخضع يسوع لهذه التجربة، فيلقي بنفسه من أعلى شرفة الهيكل، فتحمله ملائكته لئلا يصاب بضرر. كم من الناس واللاهوتيين والمعلمين والباحثين وأصحاب الايديولوجيات يجتزئون كلام الكتب المقدسة ويفسرونها وفقا لمصالحهم ومن أجل بلوغ أهدافهم! فيزرعون الشك في النفوس حول حقيقة الله، ومضامين الوحي الإلهي، وتعليم الكنيسة، ويحتلون مكان الله.
أما يسوع فاتخذ صورة عبد، وأطاع حتى الموت على الصليب، المعروف بخشبة العار، من أجل فداء البشرية جمعاء، وانحدر إلى ظلمة الأموات، وأشع عليهم نوره الخلاصي. فتجلت محبة الله ورحمته اللامتناهية لكل انسان. وبدلا من أن يرمي بنفسه من أعلى شرفة الهيكل ليظهر عظمته للبشر، مناقضا كل نهج التواضع، “رفعه الله من ظلمة الموت إلى أعلى السماوات، وأعطاه اسما يفوق جميع الأسماء، لكي تجثو له كل ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب، تمجيدا لله الآب.
ج.التجربة الثالثة، تجربة الحصول على السلطة ولو بالاستعباد للشيطان وبفقدان الحرية والكرامة الشخصية، هي تجربة مغرية، كما سابقتاها، فالمسيح أتى ليملك على العالم، ويجعل منه ملكوت الله، المميز بالاخوة والعدالة والسلام. لكن ثمن هذه السلطة الشاملة الخضوع، عقلا وإرادة وحرية، للشيطان. سلطة مع عبودية في آن. سيادة على الناس وعبودية للشيطان.
لكن يسوع أصبح ملك الكون، أرضا وسماء، من نوع آخر وبوسيلة أخرى هي موته وقيامته. لذلك قال:”لقد أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض” . سلطانه خلاصي، إذ “ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي فداء عن نفسه؟” .
إن الكنيسة حريصة دائما على الفصل بين الدين والدولة، بين الإيمان والسلطة، لئلا يضع الإيمان ذاته في خدمة السلطة، ويخضع لمقاييسها.
4. لا ينفصل سماع كلام الله عن الصلاة. فالله يكلمنا كاشفا لنا ذاته وإرادته وتصميمه الخلاصي، ونحن بالصلاة نجيبه ممجدين وشاكرين، ملتزمين ومستغفرين، مستلهمين ومعتصمين، ملتمسين ومتشفعين. الصلاة هي التماس الله، بل استعطاء الله، كما يقول القديس أغسطينوس . ولذا تفترض التواضع أساسا لها ومدخلا. فالمتكبر والمكتفي بذاته وبما يمتلك لا يستطيع أن يصلي، ويعتبر الوقت المعطى للصلاة ضياعا. يسوع ينتظرنا في حاجاتنا، ليقول لكل واحد وواحدة منا ما قاله لتلك المرأة السامرية التي جاءت تستقي ماء من البئر:”لو تعرفين عطية الله!” .
5. زمن الصوم الكبير هو زمن سماع كلام الله من أجل تثقيف الايمان. ولهذه الغاية تقام رياضات روحية في الرعايا والأديار والمدارس والمؤسسات. فنطلب من الواعظين أن يتناولوا في عظاتهم مضمون هذه الرسالة الراعوية، وبراءة يوبيل سنة الرحمة، ورسالة البابا فرنسيس للصوم الكبير. إننا نبارك كل المساعي والجهود التي نظمت مواضيع عظات الصوم لهذه السنة، وجمعت بين الصيام الكبير ويوبيل الرحمة. ونشير إلى البرامج التي تبثها وسائل الاعلام، ولا سيما تلفزيون “تلي لوميار”/ نور سات”، و”تيفي تشاريتي”، وإذاعة “صوت المحبة”.
الفصل الثاني
الصيام والقطاعة والإماتات
6. رافقت ممارسة الصيام والقطاعة والأماتات حياة الكنيسة منذ نشأتها، كتعبير خارجي حسي عن التوبة الداخلية، وتكفير عن الخطايا والآثام، وترويض للذات على الصمود في وجه تجارب الحياة ومغرياتها، وكوسيلة ملائمة للصلاة، ورفع العقل والقلب إلى الله، للاستنارة منه ولالتماس النمو في الفضائل. وتكتمل هذه الممارسة بالالتزام أعمال المحبة والرحمة تجاه كل من هم في حاجة إليها. ومعلوم أنها ممارسة مطلوبة من قبل الله في الكتب الموحاة، وأن جميع الأديان تعيشها وتحافظ عليها جيلا بعد جيل.
الرب يسوع نفسه مارس الصوم، منقطعا عن الطعام طيلة أربعين يوما وأربعين ليلة، استعدادا لبدء رسالته الخلاصية. وأوصانا بأن نصوم من دون تظاهر كاذب، بل بانسحاق قلب أمام الله، وبإصلاح في المسلك .
7. أيام الصيام تقتضي منا العيش بالصلاة والخلوة مع الذات، والابتعاد عن ضجيج العالم، من أجل الإصغاء لإرادة الله، ومحاسبة حياتنا ومسلكنا في ضوء إرادته ورسومه ووصاياه. إن الذين بحثوا عن الله بالصوم والصلاة وجدوه، ووجدوا معنى وجودهم وغايته، كما وجدوا الأجوبة على تساؤلاتهم الكثيرة.
في أيام الصوم، ننتصر على شهوات الحياة الثلاث التي تكلم عليها يوحنا الرسول، وانتصر عليها الرب يسوع عندما جربه الشيطان، كما رأينا. فكانت شهوة الجسد ومتطلباتها المتمثلة بتجربة تحويل الحجارة إلى خبز لسد جوعه، وشهوة العظمة وكبرياء الحياة المتمثلة بتجربة إلقاء نفسه من على شرفة الهيكل بحماية الملائكة التي تأتي وتحمله فلا يصطدم بحجر، وشهوة العين ورغباتهاالمتمثلة بتجربة الحصول على ممالك الدنيا.
يعود هذا الانتصار إلى التعمق في كلام الله الذي بواسطته كان يدحر يسوع تجارب الشيطان، هذا يعني أن الصوم يقتضي، إلى جانب الصلاة، التشبع من كلام الله من خلال التأمل في الكتب المقدسة، والمشاركة في سماع مواعظ الصوم، وإيجاد وقت، ولو وجيزا في النهار، للتأمل في نص من الإنجيل، شخصيا أو جماعيا، في العائلة أو في جماعة منظمة.
والصيام ضروري لثباتنا في الإيمان الذي به نتغلب على جميع مصاعب الحياة ومحنها. عندما شفى يسوع صبيا مصابا بالصرع وممسوسا من الشيطان، سأله تلاميذه: “لماذا عجزنا نحن عن شفائه؟”، فأجاب: “هذا الجنس من الشياطين لا يطرد إلا بالصوم والصلاة”. أجل، زمن الصوم هو الوقت المناسب للثبات في الإيمان، الذي من دونه نبقى سريعي العطب، ومثل قشة يتجاذبها الريح.
8. إن شريعة الصيام توجب الامتناع عن الأكل والشرب من نصف الليل حتى الظهر، مع إمكان شرب الماء، وتوجب القطاعة عن أكل اللحم والبياض في أيام الجمعة كإماتة تذكرنا بألآم المسيح وموته لفدائنا.
أ- في زمن الصوم الكبير لسنة 2016
يمتد الصيام اليومي والقطاعة أيام الجمعة من اثنين الرماد (8 شباط) حتى سبت النور ظهرا (26 أذار). باستثناء كل يوم سبت وأحد، ما عدا سبت النور، بموجب القوانين الرسولية. فيوم السبت تذكار الخلق، ويوم الأحد تذكار القيامة، أما سبت النور فتذكار اليوم الذي كان فيه الخالق تحت الثرى، فلا يحسن فيه الابتهاج. وأيضا باستثناء الأعياد الآتية: مار مارون (9 شباط)، ومار يوحنا مارون (2 أذار)، والأربعين شهيدا (9 أذار)، ومار يوسف البتول (19 أذار).
ونوصي بالقطاعة عن أكل اللحم مع الصيام طيلة الأسبوع الأول من الصوم الكبير وأسبوع الآلام.
ب- في مدار سنة 2016
إننا نوصي بالمحافظة على العادة التقوية، وهي ممارسة القطاعة بالامتناع عن أكل اللحم فقط: في صوم عيد القديسين الرسولين بطرس وبولس من الاثنين 20 إلى الثلاثاء 28 حزيران، وصوم عيد انتقال السيدة العذراء بالنفس والجسد إلى السماء من الاثنين 8 إلى السبت 13 آب، وصوم عيد ميلاد الرب يسوع من الجمعة 16 إلى ظهر السبت 24 كانون الأول.
د – تفسيحات
بما أن القوانين الكنسية توجب إلزامية الصيام والقطاعة، فإننا نفسح من إلزاميتها: للمرضى والمسنين والأشخاص الذين يتناولون أدوية مزمنة، وأؤلئك الذين يقومون بأعمال مضنية تتعدى فترة الظهيرة، شرط أن يتناولوا بكمية قليلة، ويعوضوا بإماتات أخرى والصلاة وأعمال المحبة والرحمة.
ونلفت الانتباه إلى أن القانون 883 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية يسن في فقرته الأولى على إمكان المسيحيين، الموجودين في بلدان الانتشار وخارج النطاق البطريركي، من إتباع القواعد المعتمدة في أماكن وجودهم. ويسن في فقرته الثانية على أنه يسمح للعائلات التي ينتمي فيها الزوجان إلى كنيستين مختلفتين ذات حق خاص بالمحافظة على ما ترسمه إحدى هاتين الكنيستين.
هـ- سر التوبة والمصالحة
بما أن ممارسة الصيام والقطاعة والإماتات هي تعبير عن توبة القلب الداخلية، يجب أن تكتمل بممارسة سر التوبة والمصالحة، إما إفراديا، وإما في ليتورجيات توبة جماعية تستوجب الاعتراف الشخصي بالخطايا، والحلة السرية الفردية.
إننا نطلب من كهنة الرعايا تخصيص الأوقات اللازمة لكي يتمكن أبناء رعاياهم وبناتها من قبول نعمة هذا السر المقدس الذي يؤهلهم للعبور، مع فصح المسيح، إلى حياة جديدة.
الفصل الثالث
أعمال المحبة والرحمة
9. شددت الكتب المقدسة على أن ترافق ممارسة الصوم والقطاعة والصلاة بأعمال المحبة والرحمة. فآشعيا النبي يدعونا إلى ذلك، منذ خمسماية سنة قبل المسيح، معطيا المعنى الحقيقي للصوم:
“أليس الصوم الذي أفضله هو حل قيود الشر وفك قيود النير، وإطلاق المسحوقين أحرارا؟ أليس هو أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين بيتك؟ واذا رأيت عريانا أن تكسوه وألا تتغاضى عن لحمك؟ حينئذ يبزغ كالفجر نورك، ويضمد جرحك سريعا، ويسير برك أمامك، ومجد الرب يجمع شملك. حينئذ تدعو فتستجيب الرب، وتستغيث فيقول هاءنذا. وإذا تخليت عن لقمتك للجائع وأشبعت النفس الذليلة، يشرق نورك في الظلمة، ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر. ويهديك الرب على الدوام، ويشبع نفسك في الأرض القاحلة، فتصير كجنة ريا وكينبوع مياه لا تنقطع مياهه” .
10. إن سنة الرحمة هي بامتياز “سنة الخير المرضية لدى الله” التي أعلنها الرب يسوع، ذات سبت في هيكل الناصرة، عندما قام ليقرأ من كتاب آشعيا النبي آية تختصر ما جاء في نبوءته المذكورة. لكنها تمتاز عنها بأن النبوءة تمت في شخص يسوع المسيح، صانع الرحمة والعدالة والحرية. يورد لوقا الانجيلي هذه الحادثة كالآتي:
“جاء يسوع الى الناصرة حيث تربى ودخل المجمع بحسب عادته يوم السبت و قام ليقرأ فدفع اليه سفر أشعيا النبي و لما فتح السفر وجد الموضع المكتوب فيه: “روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين وأرسلني لاشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين أحرارا، وأكرز بسنة الرب المقبولة”.
11. أجل، إنها سنة الرحمة، يكتب البابا فرنسيس في “براءة يوبيل الرحمة”، “سنة أعلنها الرب، ونحن نريد أن نعيشها في السنة المقدسة التي تحمل معها غنى رسالة يسوع التي يتردد صداها في كلمات النبي، أعني: حمل كلمة ومبادرة عزاء للفقراء، وإعلان تخلية سبيل المأسورين ضمن أشكال جديدة من عبوديات المجتمع المعاصر، وإعادة البصر إلى العاجزين عن الرؤية بسبب الانغلاق على ذواتهم، وإعادة الكرامة الى المحرومين منها. فلتكن عظات يسوع وكلماته وأفعاله مرئية في أعمالنا” .
ويدعونا البابا فرنسيس إلى القيام بأعمال رحمة جسدية ومادية يعددها في كل من براءة الدعوة إلى “يوبيل الرحمة”، ورسالته بمناسبة الصوم الكبير. فأعمال الرحمة الجسدية هي: إطعام الجائع، وسقي العطشان، وإلباس العريان، واستقبال الغريب، والعناية بالمريض، وزيارة السجين. وأعمال الرحمة الروحية هي: إرشاد العائشين في الشك، وتعليم الجهال، وتنبيه الخطأة والضالين، وتعزية الحزانى، ومغفرة الإساءات، واحتمال الأشخاص، والصلاة إلى الله من أجل المرضى والأموات. على كل هذه الأعمال سندان في مساء الحياة.
12. ويضيف البابا فرنسيس في براءة يوبيل الرحمة، معددا مساحات أعمال الرحمة الجسدية والروحية:
“في هذه السنة المقدسة، يمكننا أن نختبر كيف نفتح قلوبنا على من يعيشون في الضواحي الوجودية التي يخلقها غالبا العالم المعاصر بطريقة مأسوية. كم هي كثيرة في عالم اليوم أوضاع الألم وانعدام الثبات! كم من الجراح المطبوعة في أجساد أشخاص كثيرين لا صوت لهم، لأن صراخهم اضمحل وانطفأ بسبب لامبالاة الشعوب الغنية! في هذا اليوبيل تدعى الكنيسة أكثر من أي وقت مضى للاعتناء بهذه الجراح ومداواتها بزيت العزاء وتضميدها بالرحمة ومعالجتها بالتعاضد والعناية الواجبة. دعونا لا نقع في فخ اللامبالاة التي تذل، وفي الاعتياد الذي يخدر النفس ويمنع من اكتشاف الجديد. لنفتح أعيننا كي نرى بؤس العالم، وجراح العديد من الإخوة والأخوات المحرومين الكرامة، لنشعر بأننا مدعوون الى الاصغاء الى صرخة المساعدة التي يطلقونها. فلنشد بأيدينا على أيديهم، ولنجذبهم إلينا كي يشعروا بحرارة حضورنا وصداقتنا وأخوتنا. فلتصبح صرختهم صرختنا، ولنكسر معا حاجز اللامبالاة التي غالبا ما تسود وتخفي الخبث والأنانية” .
13ز إننا نحيي كل الذين واللواتي يقومون بأعمال محبة ورحمة، جسدية وروحية، مادية ومعنوية، تجاه ذوي حاجة، عبر مبادرات تقوم بها الأبرشيات والرهبانيات والرعايا، والمدارس والجامعات والمستشفيات، والمؤسسات الاجتماعية، والأخويات والحركات الرسولية. ونثمن أعمال المنظمات الخيرية، وبخاصة كاريتاس-لبنان، والبعثة البابوية، وجمعية مار منصور دي بول، وأمثالها، منظمة الصليب الأحمر.
وندعو إلى دعم “حملة كاريتاس- لبنان السنوية في زمن الصوم الكبير، التي هي جهاز الكنيسة الاجتماعي والانمائي، وتعمل باسم مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان.
الخاتمة
14. صوم وصلاة وتوبة وأعمال محبة ورحمة. هذا هو “الزمن المقبول لدى الله”، زمن الصوم الكبير، الذي يكتسب قيمة يوبيلية في “سنة الرحمة”. إنه زمن العبور إلى الرحمة والغفران، اللذين هما جوهر الله وعطيته للإنسان لكي يستطيع أن يعيش مع أخيه الإنسان بفرح وتعاون وسلام.
إن بين أيديكم، من أجل حسن هذا “الزمن المقبول” للتأمل والتوجيه والالتزام: براءة البابا فرنسيس بعنوان:”وجه الرحمة”، التي دعا فيها إلى يوبيل الرحمة، وقد افتتحه، ونحن أيضا، في 8 كانون الأول 2015، ورسالته لمناسبة صوم 2016 في موضوع:”أريد رحمة لا ذبيحة”(متى 9: 13) -“أعمال الرحمة في مسيرة اليوبيل”، وكتيب “يوبيل سنة الرحمة في الكنيسة المارونية”، الذي أصدرته اللجنة البطريركية المارونية لسنة الرحمة، وفيه توجيهات عن الباب المقدس في الأبرشيات والنيابات البطريركية، واحتفالات على صعيد الكرسي البطريركي، واقتراحات عملية للأبرشيات. هذا الكتيب هو خير دليل لعيش سنة الرحمة.
ونضع بين أيديكم هذه الرسالة الراعوية لصوم 2016. نرجو تلاوتها مقاطع على المؤمنين في قداسات الأحد، والعودة إليها وإلى الوثائق المذكور أعلاه في العظات ورياضات الصوم.
18. نسأل الله أن يساعد الجميع على أن يفتحوا قلوبهم للنعم السماوية التي تفيض في هذا “الزمن المقدس”، بفضل الأصوام والصلوات، وممارسة سر التوبة، ومبادرات المصالحة، وأعمال المحبة والرحمة، بشفاعة أمنا مريم العذراء، “أم الرحمة”. للثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، كل مجد وشكر وإكرام، الآن وإلى الأبد، آمين.
عن كرسينا في بكركي في أول شباط 2016
الكاردينال بشاره بطرس الراعي
بطريرك أنطاكيه وسائر المشرق”.