ترأس البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في بازيليك سيدة لبنان – حريصا قداس الأخويات في لبنان، عاونه فيه المطران طانيوس الخوري ورئيس جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة الأب مالك بوطانوس، المرشد العام للاخويات الأب سمير بشارة ولفيف من الكهنة. وحضر القداس السفير البابوي المونسنيور غابريال كاتشيا وعدد من الرؤساء العامين والرئيسات العامات وحضرت من الهند الرئيسة العامة لجمعية مرسلات المحبة لراهبات الأم تيريزيا دوكالكوتا.
وألقى بشارة كلمة قبل القداس قال فيها: “يسرنا، نيافة الكاردينال وغبطة أبينا البطريرك، ان نستقبل في قداسنا السنوي، في هذا المزار المريمي العريق، قدس مجلس الرؤساء العامين والعامات في لبنان، الذين أحبوا ان يشاركونا الذبيحة الالهية ويقدموها من أجل نفوس أخواتنا الراهبات اللواتي استشهدن في اليمن. اهلا وسهلا بكم”.
أضاف: “نحن اليوم إخوتي وأخواتي الاعزاء أمام تحديات عديدة هي خمسة يجب علينا كرابطة وأخويات ان نرفعها معا: أولا ان عالمنا كسفينة ضائعة في بحر أمواج ملتهبة، وفي مجتمع مشتت، يبحث عن الحقيقة ولا يجدها، التحدي الاول هو ان نكون منارة رجاء تبعث النور الحقيقي في حياة الافراد والجماعات، وتمنح السلام الداخلي لمن بدأ يفقده. ثانيا ان أخوياتنا ليست حركة نخبوية، لكنها بيت ومنزل أبوي، حيث يجب ان يتوفر مكان للكل. التحدي الثاني هو ان نخرج من رفاهيتنا وراحتنا ونتحلى بالشجاعة للبلوغ الى جميع المناطق والفروع المهمشة والمحتاجة. ثالثا لا نخضعن للمجد الباطل والكراسي والمناصب، بدلا من مجد الله وخير أخينا الانسان، التحدي الثالث هو ان نخدم الآخر لا عن واجب ولا عن شفقة، بل لانه انسان على صورة الله، وهذا يعني ان نحتك بحياة أخوياتنا وهمومها، ونختبر معهم قوة الحنان. رابعا، للحفاظ على الزخم الرسولي، يلزمنا حياة روحية ثابتة لئلا نضعف وننعس، والتحدي هنا، هو ان نتغذى دائما من الانجيل ومن القربان بدون فترات عبادة ولقاء ضارع مع الكلمة وحوار صريح مع الرب، تفقد المهام معناها بسهولة، وتخور قوانا بسبب التعب والصعوبات وينطفىء الحماس”.
وختم: “خامسا، يقول قداسة البابا فرنسيس: مريم، مريم هي التي تعرف ان تحول مغارة للبهائم الى بيت مؤهل، بواسطة أقمطة فقيرة وجبل من الحنان، أزيد على ذلك ان مريم – هي التي شاركت دائما بصمت وسهر على أخوياتنا وتاريخها اليومي. بدونها – وهذا هو التحدي الأخير – لن نتوصل الى خوض معركة الإيمان والرجاء والرحمة التي تليق بابنها يسوع “لان الى الأبد..رحمته”.
العظة
بعد الإنجيل ألقى الراعي عظة بعنوان “رابوني، ان أبصر” قال فيها: “يظهر من هذه الحادثة، أن الأعمى كان بفضل إيمانه المبصر الحقيقي بين الجمع الغفير الذي كان يتبع يسوع. ففيما كان المار بالنسبة إلى الجماهير “يسوع الناصري”، رأى فيه الأعمى، بعين الإيمان، “المسيح المنتظر ابن داود”، و”وجه رحمة الله”، القادر على شفائه من عماه. ولهذا راح يصرخ إليه: “أيها المسيح ابن داود! ارحمني” (مر10: 47). ولأنه أدرك بإيمانه أن يسوع هو النور الآتي إلى العالم، لم يلتمس منه صدقة مالية، كما من سائر الناس، بل النور لعينيه المنطفئتين. فعندما سأله يسوع: “ماذا تريد أن أصنع لك؟ أجاب للحال: رابوني، أن أبصر”.
أضاف: “يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية هنا في بازيليك سيدة لبنان-حريصا لنحتفل مع أخوياتنا بعيدهن السنوي الذي هو عادة في عيد بشارة العذراء مريم المتزامن هذه السنة مع الجمعة العظيمة. فإنا نهنئ جميع الأخويات أعضاء وعمدات وأقاليم ومرشدين، ونهنئ الرابطة مرشدا عاما ورئيسا ولجنة إدارية. نسأل الله بشفاعة أمنا مريم العذراء، أن يبارك أخوياتنا بفيض من نعمه، كي يتقدس أعضاؤها، وتزدهر وتنمو لتكون شهود إيمان، وخدمة محبة وبناة وحدة وسلام. إن المقياس الأساسي للانتساب إلى أية أخوية هو التعمق في الإيمان والمجاهرة به بالكلمة والموقف والأعمال، في كل ما يتعلق بحقيقة المسيح والكنيسة والإنسان. فالحقيقة المثلثة هذه هي نور العقل والقلب والضمير، بدونها وخارجا عنها يهيم الانسان في ظلام”.
وتابع: “بالأسى والرجاء نحتفل بهذه الذبيحة الإلهية لراحة نفوس الأخوات الراهبات مرسلات المحبة للطوباوية الأم تريزا دي كلكوتا، اللواتي سقطن شهيدات الإيمان في عدن في اليمن في 4 أذار الجاري على يد مسلحين وهن المرحومات الأخوات: Anselm من الهند، و Marguerite من رواندا، و Judith من كينيا، وReginette من رواندا التي كانت تستعد لإبراز نذورها الرهبانية المؤبدة. وإذ بالنذور تلتزم الاقتداء بالمسيح مدى الحياة، فإنها بالاستشهاد مع أخواتها تبلغ الاقتداء التام به في شهادته وموته على الصليب، لفداء الجنس البشري؛ وتحتل معهن “المكان تحت مذبح الحمل المذبوح مع نفوس سائر المذبوحين في سبيل كلمة الله والشهادة التي شهدوها”، على ما نقرأ ف رؤيا يوحنا (6؛ 9). إننا نتقدم بالتعازي الحارة من الأخوات الراهبات مرسلات المحبة اللواتي يواصلن خدمة المحبة في اليمن في أربعة أديار، ومن رئيستهن العامة الحاضرة معنا، الأخت Prema، والرئيسة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط الحاضرة معنا هي أيضا، والجماعات الآتية من بيروت وبشري في لبنان، ومن الدويلع ودمشق في سوريا، فنحيي رئيسات الأديار الأربعة والراهبات الحاضرات معهن. ونقدم تعازينا لجماعة الراهبات في دير حلب بسوريا، اللواتي يخدمن دار العجزة والمرضى هناك، ولم يستطعن المجيء بسبب الأوضاع الأمنية الراهنة. ونوجه تعازينا مقرونة بالصلاة إلى أهالي وعائلات الراهبات الشهيدات”.
وقال: “نقدم هذه التعازي ونحتفل بهذه الذبيحة الإلهية مع السادة المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات وهذا الجمهور من الآباء والرهبان والراهبات. إن في قلوبنا رجاء وعزاء بأن الراهبات شهيدات الإيمان يتكللن بإكليل الشهداء، مع من سبقهن من راهبات سلكن طريق الاستشهاد، ولاسيما الراهبات الثلاث اللواتي سقطن شهيدات برصاص مسلحين في المنطقة نفسها سنة 1998. كلهن يشكلن إكليل المجد حول رأس مؤسستهن الطوباوية الأم تريزا دي كالوكوتا، التي تستعد الكنيسة الجامعة للاحتفال بإعلان قداستها وإدراجها في سجل القديسين في الأشهر القادمة على يد قداسة البابا فرنسيس في بازيليك القديس بطرس بروما”.
أضاف: “نذكر بصلاتنا العاملين غير المسيحيين الذين استشهدوا مع الراهبات الأربع في دار العجزة في عدن، وقد وقفوا سدا منيعا بوجه المسلحين لمنعهم من الاعتداء على الراهبات. فقتلوهم جميعا، ثم أطلقوا النار على الراهبات من دون رحمة، في يوبيل سنة الرحمة المقدسة. نصلي إلى الله كي يتقبل استشهادهم في مجد السماء، ويعزي عائلاتهم بفيض من حنانه. إننا نشكر الله على نجاة رئيسة الدير في عدن الأخت Sally من الهند التي لم تتواجد في مكان استشهاد أخواتها الراهبات الأربع. ويبقى القلق حول مصير الأب السالزياني Tom Uzhunnlil الذي كان يقيم في الدير، واختفى بعد الحادثة المؤلمة. ويؤلم الراهبات جدا ان الستين مسنا الذين يعيشون في تلك الدار، هم في حالة صحية تحتاج إلى عناية، ويبكون الراهبات والعاملين، ويطالبون ببقاء مرسلات المحبة فيما بينهم، لأنهن يؤلفن مع كل العاملين والمساعدات والعجزة أسرة واحدة بتعدد أديانها، ويرون من خلالهم وجه الله – المحبة. ومعلوم أن للراهبات مرسلات المحبة أربعة أديار في اليمن: ففي سنة 1973 افتتحن الدير الأول في منطقة الحديدة، وبعد سنة أسسن الدير الثاني في منطقة تعز، والثالث سنة 1976 في العاصمة صنعاء، والرابع في عدن سنة 1992. في جميع هذه الأديار كما في سواها في لبنان وسوريا وغيرها، يتكرس الراهبات لخدمة المسنين والمسنات والمساجين والمعوقين من كبار وصغار”.
وقال: “إن استشهاد الراهبات يزيد أخواتهن قناعة واندفاعا رساليا للبقاء في تلك البلاد، التي لا تعرف اليوم إلا لغة الحرب والسلاح والقتل والدمار، وهي بأمس الحاجة إلى لغة إنجيل المحبة والسلام وقدسية الحياة البشرية. ليست لغة الإنجيل “العين بالعين والسن بالسن” (متى 5: 28)، بل لغة المغفرة والصلاة. ونحن نؤمن أن بلدان هذا المشرق التي على أرضها تجلى سر الله الواحد والثالوث، سر الله المحبة والرحمة، والتي منها أعلن إنجيل يسوع المسيح لخلاص كل إنسان، هي اليوم، أكثر من أي يوم مضى بأمس الحاجة إلى الوجود المسيحي الشاهد والفاعل، “كخميرة في العجين، وملح في الطعام” (متى5: 13؛ 13: 33).
وكون “دم الشهداء بذار المسيحيين”، على ما ردد آباء الكنيسة فإن جمعية الراهبات مرسلات المحبة، كما الكنيسة وسائر مؤسساتها، ستنمو أكثر فأكثر، لأن بدم الشهداء يتواصل سر المسيح الكلي الذي هو الكنيسة المشبه “بحبة الحنطة التي، إذا ما وقعت في الأرض وماتت، أعطت ثمرا كثيرا” (يو 12: 24)”.
أضاف: “رابوني، أن ابصر”. عندما أعاد يسوع البصر إلى عيني أعمى أريحا، أراد أن يبين للجمع أنه كان المبصر الحقيقي، وربما الوحيد بينهم، بفضل إيمانه، فقال له: “إذهب! إيمانك خلصك” (مر10: 52). أجل البصر الحقيقي هو البصر الداخلي: بصر العقل المستنير بالإيمان والحكمة، وبصر الإرادة المستنيرة بمشورة الروح القدس والثبات في الرجاء، وبصر القلب المستنير بالمحبة وتقوى الله. وبالتالي العمى الحقيقي هو العمى الداخلي النابع، كما يقول قداسة البابا فرنسيس، من “هذيان الكبرياء والقوة والنفوذ والمال (راجع رسالة الصوم، 3). هذا العمى الداخلي يظلم الحياة الاجتماعية والسياسية، ويعمي عيون أصحاب السلطة والقرار عن رؤية ضحايا الشر والظلم والاستبداد، وحالات الفقر والحرمان والجوع والبطالة واليأس من مستقبل أفضل. والعمى الداخلي يحول قلب صاحبه إلى “قلب من حجر”، قلب يفقد كل شعور إنساني وشفقة ورحمة، ويهيم في ظلمة مصالحه، وسجن أفكاره، وسلاسل نظرته الضيقة ومواقفه المتحجرة”.
وتابع: “نقول هذا كدعوة موجهة إلى كل صاحب مسؤولية في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. ونقولها بنوع خاص إلى المسؤولين السياسيين عندنا، في البرلمان والحكومة والمؤسسات العامة والأحزاب. ونتساءل مع الشعب اللبناني: كيف يمكن تبرير الوصول بالبلاد إلى هذه الحالة من التفكك والانحلال؟ هل من مبرر بعد اليوم، ومن باب الضمير الوطني، لإبقاء سدة الرئاسة في فراغ منذ سنة وعشرة أشهر؟ ولتعطيل عمل المجلس النيابي المسؤول عن التشريع والمساءلة والمحاسبة طيلة هذه المدة؟ ولجعل الحكومة في حالة تعثر واللاقرار؟ ولفتح الأبواب على مصراعيها لتفشي الفساد في الإدارات العامة، ولتغطية المفسدين المجرمين؟ وإلى متى هذا التجني السافر على الدولة والشعب، وعلى مصير الأمة بأسرها الذي يطالب به الشعب بتظاهرات متواصلة مع ما تقتضي من تضحيات؟”
وختم الراعي: “على مستوى الشرق الأوسط، أليس العمى الداخلي النابع من مصالح الدول الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية، هو الذي افتعل الحروب ومولها ومدها بالسلاح والمرتزقة، وحجر قلوب حكام الدول شرقا وغربا، فلا يرون قهر السكان الأبرياء الذين يهجروه بالملايين من سوريا والعراق وفلسطين وسواها؟ وأولئك الذين يسقطون يوميا ضحايا الإرهابيين؟ ولا يرون المشردين والتائهين على أبواب الدول وقد خسروا جنى العمر؟”
نخلة
وفي ختام القداس، ألقى رئيس رابطة الأخويات غطاس نخلة كلمة قال فيها: “سنة بعد سنة وجيل بعد جيل وعلى مدى ثلاثة قرون وستة عقود ونيف من الزمن، لا تزال الأخويات تمضي قدما نحو الأمام وتسجل خطوات متقدمة في رسالتها وتزداد قوة وصلابة ومنعة وعزما بثقة وإيمان وتسير بالاتجاه الصحيح، وتحقق أهدافها وغاياتها انطلاقا من مبادئها. وما الحضور اليوم بهذا الإندفاع القوي والإيمان الثابت والراسخ الا البرهان الأكيد والدليل ان الجماعة المؤمنة هي العمود الفقري لجسم الكنيسة عصبها ونواتها يعلوها رأس تميز بحكمته ومعرفته وعلمه وثقافته ودماثة خلقه، وقد ضاهت حكمته حكمة سليمان فهو كشجرة الأرز الشامخة الخالدة التي تلوي مع الريح ولا تنكسر لا يحني هامته الا لربه، وحدها كلمة الله لسانه”.
أضاف: “صاحب المواقف الوطنية والشجاعة والجريئة نادى وينادي بالسيادة على كامل التراب اللبناني وبوجوب انتخاب رأس للدولة كي تعود الحياة الطبيعية لمؤسساتها الدستورية، عنيت به البطريرك مار بشارة بطرس الراعي حفظه الله، وما أحوجنا اليوم الى قائد وطني يتحلى بصفاته ومزاياه فترتاح البلاد والعباد ويتحقق الأمن والأمان والعدل والمساواة والسلم والسلام في منطقة لا سلام فيها بل حروب شعواء تدمر الحجر والبشر ويستبيح مرتكبوها الأرض والعرض، ويمارسون أبشع أنواع القهر والظلم والإضطهاد والتعذيب، وكان آخرها للأسف استشهاد أربع راهبات في اليمن ذنبهن الوحيد إنهن يقمن بخدمة العجزة من غير دينهم”.
وتابع: “دأبت رابطة الاخويات على تفعيل عملها الرسولي بكل الوسائل المتاحة لنكون سباقين في مجالات الإبداع والإبتكار وطرح الأفكار الخلاقة وتطويرها وإقرارها وتنفيذها، ونشر الرسالة لأخوياتنا المنتشرين على مساحة الوطن وبلاد الإغتراب”.
وطنية