أطلق كتاب “المطران يوسف رزق الجزيني 1780-1865” للمؤلف الخوري مخايل قنبر، خلال ندوة أقيمت في الصرح البطريركي ببكركي، برعاية البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وحضوره، وشارك فيها رئيس جامعة القديس يوسف البروفسور الأب اليسوعي سليم دكاش، امين الاعلام في الحركة الثقافية -انطلياس الدكتور عصام خليفة، المحامي أمين رزق من لجنة وقف مار يوسف – جزين وأمين عام جامعة الحكمة الدكتور أنطوان سعد.
خليفة
وألقى خليفة كلمة قال فيها: “في زمن الزلازل والانهيارات يأتي كتاب الخوري مخائيل قنبر في الوقت المناسب. انه كشف لجوهر الذاكرة التي نحن بأمس الحاجة اليها في زمن الفراغ وتشلع المؤسسات”.
أضاف: “لان كتاب الأب قنبر قد ركز على المطران يوسف رزق، فحسبي في مداخلتي المقتضبة ان اتوقف عند ابرز ملامح الإصلاح التي كشفها المؤلف عند هذا الحبر الجليل. كان المطران يوسف رزق، في حياته الروحية، مثالا طيبا لتلاميذه وعارفيه، يحرص على أداء الصلاة في اوقاتها، وعلى ممارسة التقشف وكان ورعا في عبادته. لا يجلس في الكنيسة بل يكون فيها دائما منتصبا في ركوعه. وكان ملجأ للضعيف ووسيطا للخير. يلجأ اليه الجزينيون في الشدائد فيدافع عنهم. كان يحنو على الفقراء فيمدهم بالهبات، او يقرضهم من ماله الخاص. ولا يستعيد من تلك المبالغ الا الجزء اليسير. امن المعيشة لكهول عائلته من خلال وقف مدرسة جزين، وارسل المعونات الزراعية والغذائية للمحتاجين، كما كان يحرص على تأمين الاعمال للعاطلين عن العمل. كان سخيا مضيافا يساعد كل قاصد”.
وتابع: “أدخل الى مدرسة عين ورقة تعليم اللغتين الإيطالية واللاتينية إضافة للسريانية والعربية ابتداء من سنة 1826، كما ادخل اليها تعليم اللغة الفرنسية سنة 1860. اقام للتلامذة معلمين اكفياء ومرشدين مناسبين ورعاة اتقياء، هو الذي كان وراء تحويلها الى صرح للتعليم العالي وادخل فيها (كاتدرا العلوم الفلسفية واللاهوت) أكد أولوية الفضيلة والعلم وكان يوكل الى البطريرك بتفحص سلوك التلامذة في كل شيء. اعطى الجوائز لكل طالب حسب استحقاقه. كان يضع لائحة بجميع الهفوات التي تصدر عن كل التلاميذ -اذا وجدت- بهدف اصلاح ما يمكن إصلاحه. وفي جزين بنى من ماله الخاص مدرسة متمثلا بمعلمه المطران يوسف اسطفان، امنت التعليم المجاني لأبناء المدرسة وجوارها، لا بل ان البند السادس في بيان انشاء المدرسة اكد انه اذا افتقر احد افراد عائلة رزق او اصبح عاجزا عن العمل، فعلى وقف المدرسة تأمين معيشته. لقد اصلح ارزاق المدرسة، ووفى جميع الديون عنها ثم اشترى للمدرسة الارزاق الجديدة. لقد دفع من حسابه الخاص مبلغ 150 الف غرش عثماني بمثابة دين عن المدرسة. وكان يقدم للبطريرك حسابا سنويا دقيقا عن مداخيل المدرسة ومصاريفها. وكان يصرف كامل ثروته على مدرستي عين ورقة وجزين وكنيستيهما”.
واردف: “أدار المطران بكفاءة عالية الممتلكات والأموال، وكان على صلة بشبكة تجارية واسعة في لبنان والشرق وأوروبا. وكان يعتمد على خبراء في عمليات البيع والشراء. وفي كل الأحوال كان شفافا وصارما في القضاء على الفساد والمفسدين. كما كان مطران العمل، يعمل بيديه كسائر العمال لانجاز الكنيسة، كان قوي البنية، داوم واستمر في العمل وحده يوميا مدى سنة ونصف. وما كان يتوقف الا وقت الصلاة والاكل والنوم والامطار. كان في حياته الاجتماعية والسياسية شديد المقاومة لارباب السلطة. تمايز عن البطريرك مسعد في موقفه من حركة كسروان 1858 – 1859. ورغم التباعد عادا وتعانقا باكيين قبل وفاته بأيام. وعام 1845 دعا الى اخماد نيران الفتنة وبذل جهده في الدعوة للألفة بين الفرقاء مستعملا كل الوسائط مع اعيان الدروز للمحافظة على السلام. حتى انه تعرض للرصاص من احد الجزينيين مقاومة لسياسته السلمية”.
أضاف: “من خلال كتاب الخوري مخائيل قنبر نعرف سر قوة الموارنة، عندما نعرف من قاد صناعة المعرفة في ام مدارسهم، فانتجت عبر خريجيها رجال دين ودنيا ساهموا في تقدم العلم والمعرفة، وقادوا الشعب في عاميات شعبية ضد ظلم الحاكم. والاسئلة الخطيرة التي تقرع ضمائرنا كل يوم: اين روحية بناة عين ورقة الذين علموا الطلاب مجانا من خلال مساهمة الأغنياء ومتوسطي الحال والفقراء في تمويل هذه المؤسسة، بالمقارنة مع جشع المؤسسات التربوية في وقتنا الحاضر؟ أين معلمي عين ورقة الذين كانوا يتمتعون بالرصانة والتهذيب والتقوى والآداب والفضائل والعلم والكفاءة من بعض معلمي هذه الأيام؟ هل يتم تطبيق المجمع الماروني الانطاكي الأخير بصدد التربية والتعليم العالي عموما وحقوق المعلمين خاصة لجهة تطبيق اتفاقية الاونسكو للعام 1966 وإقرار غلاء المعيشة بموازاة غلاء الأسعار وإقرار السلسلة التي أصبحت بمثابة سلسلة تكبل ذوي الدخل المحدود؟ في مرحلة هجوم الفكر الإرهابي بطبعاته المختلفة وفي ظل الإغراق الديمغرافي لجغرافية الوطن من قبل النازحين السوريين والفلسطينيين والتي ستؤدي حتما الى تغيير هويته، أين لنا أمثال يوسف اسطفان يؤمن بقيم العدالة المساواة والحرية حتى الاستشهاد؟ أين الرجال الذي يقودون الشعب للحيلولة دون انهيار الدولة التي ضحى الإباء والاجداد لقيامها؟ من يسهر على مصالحنا العليا في مرحلة صياغة الخرائط الجديدة للمنطقة؟”.
وختم: “نحن نعرف من الاطلاع على آلاف الوثائق، دور بكركي في بقاء أكثرية الموارنة على قيد الحياة -من خلال توجيه البطريرك العظيم الياس الحويك ودينامية توزيع المساعدات- بقيادة الخوري بولس عقل (لاحقا المطران) (خلال مجاعة الحرب الكبرى) ونعرف جيدا دور هذا الصرح في قيادة اللبنانيين في معركة قيام دولة لبنان الكبير. والقيادة كانت على صعيد التحرك الديبلوماسي والفهم العميق لمصالح الدول الكبرى، وعلى صعيد التحركات الشعبية والتعبئة الإعلامية المناسبة. فهل ان المناسبة تسمح لنا ان نطرح هذه الأسئلة الكبرى مع صدور الكتاب الحدث- للخوري قنبر ام نبقى صامتين وتمر جريمة اغتيال الوطن التي تقترب من نهاياتها الكارثية؟”.
الراعي
ومن جهته، القى الراعي كلمة قال فيها: “يسعدني أن أعرب باسمكم عن الشكر الكبير للخوري مخايل قنبر على تحقيق هذا الكتاب النفيس عن حياة المثلث الرحمة المطران يوسف رزق، ابن جزين العزيزة، باني ومؤسس وقفية مار يوسف ومدرستها وكنيستها ومقدم أراضيها، ورئيس مدرسة عين ورقة، وعن الأحداث الكنسية والمدنية والسياسية التي رافقت حياته من مولده سنة 1780 حتى مماته سنة 1865. وقد توزعت بين 28 سنة قبل الكهنوت، و26 سنة بعده، و31 سنة في الأسقفية. وكان له دور مميز ودقيق في معالجة العديد منها. هذا الكتيب يبرز شخصية كاهن وأسقف مميزة وصفحة غنية من تاريخ لبنان اتصف بها القرن التاسع عشر. أهمية هذا الكتاب أنه ينهل من مخطوطات رسمية محفوظة في أرشيف كل من عين ورقة في بكركي ومجمع انتشار الإيمان في روما وجمعية المرسلين اللبنانيين”.
أضاف: “كان المطران القدوة الذي يتمتع بخصال حميدة عديدة، فكان في حياته الروحية قدوة لتلاميذه ومعارفه، يحرص على أداء فروض صلاته في أوقاتها، وعلى ممارسة الإماتات وأعمال التقشف. وكان ورعا في عبادته، لا يجلس في الكنيسة بل يكون فيها دائما منتصبا في ركوعه. كان في حياته اليومية محبا للعلم والعمل، وكثيرا ما كان يتمثل بهذا القول “إن البطالة قبر الأحياء”. كان بارعا في إدارة الأعمال، ويتمتع بنظرة ثاقبة في الأمور الاقتصادية، وكان ذا فراسة غريبة. ولهذا، كان معاشروه عند وقوع الحوادث يتذكرون أنباءه بوقوعها قبل أوانه. وكان سخيا مضيافا يساعد من يلتجىء إليه. كما كان في حياته الاجتماعية والسياسية شديد المقاومة لأرباب السلطة، الذين يستغلون سلطتهم الزمنية من أجل تحقيق مآربهم الشخصية، وقد اتخذ في السياسة مواقف متمايزة عن بقية رجال الإكليروس في أيامه”.
وتابع: “يقترن اسم مدرسة عين ورقة باسم المطران يوسف رزق. لقد تولى الوكالة العامة على أرزاقها سنة 1825، فبدأ حالا بورشة الإصلاح الكبير، ثم تسلم رئاستها سنة 1834 فواصل ترقيها وازدهارها ونموها على كل صعيد. ضبط إدارتها، وحرر أملاكها من الاعتداءات، وأصلح أرزاقها وحفظها، وأوفى ديونها، واشترى لها في مدة أربع سنوات (1853-1839) أربعة عشر عقارا في مناطق عشقوت، والدامور، والشويفات، وحالات وغوسطا وعلما وسواها”.
وأردف: “هذا من الناحية المادية، أما من الناحية العلمية والروحية، فبتشجيع ومساندة من البطريرك يوسف حبيش، راح المطران يوسف رزق يعمل على رفع مستواها، بحيث تسد الفراغ الذي أحدثه إقفال المدرسة المارونية في روما سنة 1733. فأضاف تعليم اللغتين الإيطالية واللاتينية على اللغتين العربية والسريانية منذ سنة 1826، ثم اللغة الفرنسية سنة 1860. وهكذا أصبحت أول مدرسة أكاديمية عالية للكنيسة في لبنان، بعد مدرسة روما التي تأسست سنة 1584. وبعد أن أحرزت مدرسة عين ورقة نجاحا مرموقا، توصل المطران يوسف إلى الحصول من مجمع إنتشار الإيمان بروما، على جعلها بمرسوم 20 تموز 1840 كاتدرائية العلوم الفلسفية واللاهوتية. ولقد خرجت العديد من رجالات التاسع عشر والقرن العشرين، من بطاركة وأساقفة وكهنة وعلماء، ومن أعلام في الخطابة والفلسفة واللاهوت والشعر واللغة العربية والرياضيات والموسيقى والتاريخ والفقه”.
وقال: “وسارت، كعادة ضعفاء النفوس، حملات الافتراء وشهادات الزور بحق المطران يوسف رزق، عبر القصاد الرسوليين، لدى مجمع انتشار الإيمان في روما، الذي كان في حينه مرجع كنائس الشرق، قبل تأسيس مجمع الكنائس الشرقية. فدافع المطران يوسف عن نفسه بأعماله وإنجازاته، وبنزاهته وصلاته وتقشفاته وأعمال الخير. هذه كلها كانت خط دفاعه الأول، لكن الكذب والإفتراء والنميمة كلها سريعة الإنكشاف، فتسطع الحقيقة كالشمس. وهكذا سرعان ما وصلت الحقيقة إلى الحبر الأعظم البابا الطوباوي بيوس التاسع، فكلف إسكندر برنابو رئيس مجمع إنتشار الإيمان أن يكتب إلى المطران يوسف رزق في 22 أيلول 1856، رسالة امتداح على أعماله في مدرسة عين ورقة، مع هدية كأس كرسه البابا القديس”.
أضاف: “أسعدت في ايلول الماضي برفع الستارة عن نصب المطران يوسف رزق بمناسبة الزيارة الراعوية التي قمت بها إلى منطقة جزين، بدعوة كريمة من سيادة أخينا المطران الياس نصار رئيس أساقفة صيدا. وقد شاء معالي النائب والوزير السابق الأستاذ إدمون رزق وآل رزق الكرام رفع هذا النصب أمام وقفية المطران يوسف المؤلفة من المدرسة والكنيسة والعقارات الموقوفة لها”.
وتابع: “في سنة 1845، بنى من ماله الخاص مدرسة جزين بأقبيتها الأربعة وملاعبها، وجهزها بأملاك وفيرة. فكان لها الفضل الخاص في تثقيف أبناء جزين والمنطقة من سنة 1856 إلى سنة 1913، وأرادها أن تتبع منهج مدرسة عين ورقة. وفي سنة 1865، أنهى بناء كنيستها الجميلة على اسم القديس يوسف. وكان قد جعل المدرسة والكنيسة المنوي بناؤها وقفا على فقراء أبرشية صيدا، بتولية مطران صيدا ووكالة آل رزق، فأثبت البطريرك بولس مسعد هذه الوقفية، وسجل صكها في ديوان البطريركية”.
وأردف: “لقد تزامنت حياة المطران يوسف رزق مع مجرى تاريخ القرن التاسع عشر وأحداثه الكنسية والمدنية ،وأهمها الفتن التي توالت سنة 1840 و1845 و1860، وضربت الجبل اللبناني ووحدته، وإنشاء القائمقاميتين، ثم نظام المتصرفية. كانت للمطران يوسف في كل هذه الأحداث والإمارة الشهابية ديبلوماسية وحكمة ودراية، ورؤية ورأي، بشجاعة وتجرد وتواضع. يصف الخوري مخايل قنبر القرن التاسع عشر بأنه “القرن المتلون العقود، الذي صبغ تاريخ لبنان الحديث بألوان لم يزل بعضها باهتا حتى الآن. فهو القرن الذي ظهر هوية لبنان التعددية بمزاياها وبلاياها، هو القرن الذي أطلق قطار العلم والمعرفة، فاستقله كثيرون من أبناء الوطن. كما أنه القرن الذي أظهر براثن الطائفية، قتقاتل إخوان الأمس، وتحالف أعداء الماضي. كل ذلك برعاية قناصل الدول الأوروبية، وتحريض السلطنة العثمانية الهرمة، هو القرن الذي لعبت فيه الكنيسة المارونية أدوارا متعددة تشبه شخصيات أحبارها فخطت في تاريخ لبنان سطورا لن تمحى”.
وختم: “غاية هذا الكتاب القريبة التعريف بشخصية المطران يوسف رزق وإنجازاته في مدرسة عين ورقة التي رئسها، ومدرسة جزين التي أسسها، ودوره الكنسي والوطني في أحداث القرن التاسع عشر. أما غايته البعيدة والمنشودة فهي أن تكون قصة هذا الكبير من عندنا “عبرة للأجيال، فلا من مدرسة أرقى وأعظم من مدرسة التاريخ والزمن. إن خلاص لبنان يكمن في حسن قراءة تاريخه الثقافي والحضاري العريق، حيث الرجال مثال يحتذى به”، ومعلوم أن الحاضر المبني على وعي الماضي هو الأساس الضامن للمستقبل الأفضل. كتاب الخوري ميخائيل قنبر خير برهان لهذه الحقيقة. فالشكر كل الشكر له على تعبه. نرجو لكتابه الرواج الذي يستحقه، ولغايته بلوغ مبتغاها”.
وطنية