ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداسا احتفاليا، في كنيسة مار مارون في بلدة جعيتا، لمناسبة عيد مار مارون شفيع رعية البلدة، عاونه فيه النائب البطريركي العام على نيابة صربا المطران بولس روحانا.
وألقى الراعي عظة بعنوان “حبة الحنطة، إن وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير” (يو12: 24)، استهلها بالقول: حبة الحنطة بامتياز، هي يسوع المسيح الذي بموته وقيامته ولدت البشرية الجديدة، المتمثلة بالكنيسة ذات الثمار الكثيرة. وقد جعلها الرب نهجا لحياة كل إنسان، بحيث أصبحت التضحية بالذات مصدر كل خير على الأرض. على هذا النهج سار القديس مارون وتلاميذه وشعبه منذ وفاته سنة 410 حتى يومنا. إنه حبة حنطة وقعت في منطقة القورشية على مقربة من أنطاكية، التي بشرها بولس الرسول وبرنابا وسيلا، وأقام فيها بطرس هامة الرسل، كرسيه الأول ومكث فيها سبع سنوات، قبل أن يغادرها ليستقر في روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية الوثنية. هذه العاصمة تحولت إلى عاصمة الكثلكة، وأصبحت قبلة العالم أجمع، بفضل استشهاد بطرس مصلوبا على تلة الفاتيكان، إحدى تلال المدينة السبع، واستشهاد بولس الرسول بقطع رأسه، والعديد من المسيحيين”.
أضاف: “يسعدنا أن نحتفل معا بعيد القديس مارون، شفيع هذه الكنيسة وشفيع رعية جعيتا العزيزة، مع أمنا مريم العذراء، سيدة النجاة وسيدة الخلاص، ومار ساسين، بدعوة لطيفة من سيادة أخينا المطران بولس روحانا، نائبنا البطريركي العام في منطقة صربا. فإني أشكره عليها وأشكركم جميعا، محييا أولا كاهن الرعية الذي يتفان في خدمتها، والمهندس إيلي سلوان، الذي جاد بالأرض والمال لبناء هذه الكنيسة على اسم مار مارون ومجمعها الراعوي والاجتماعي، وتم تدشينها منذ اثنتي عشرة سنة، ببركة أبينا صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس صفير. وقد جعلها المحسن كلها وقفا دينيا وخيريا لرعية جعيتا المارونية، بقرار من المحكمة الابتدائية المارونية الموحدة بتاريخ أول آب 1994. نسأل الله، بشفاعة مار مارون، أن يفيض عليه وعلى عائلته كل خير ونعمة. ونقدم هذه الذبيحة المقدسة على نيتهم أحياء وأمواتا، ذاكرين معهم جميع أبناء الرعية وبناتها. وأعرب لكم جميعا عن أخلص التهاني بالعيد”.
وحيا شاكرا لجنة إدارة الوقف على “سهرها ونشاطها، وعلى إنجازها بموآزرتكم وسخائكم مشروع “بيت الرعية” للنشاطات الراعوية”، معربا عن تقديره ل”راهبات القربان الأقدس المرسلات اللواتي يعنين بالقطاع الخيري في كنيسة مار مارون، ويساعدن في إنعاش الحياة الروحية والليتورجية وتعزيزها”، وعن محبته ل”جميع أهالي جعيتا الأحباء، الذين تشدني إليهم روابط روحية وتربوية، مذ كنت آتي الرعية من دير سيدة اللويزة لإلقاء مواعظ الصوم، بتكليف من المثلث الرحمة المطران مخايل ضوميط راعي الأبرشية آنذاك، وللمشاركة في أحزانهم وأفراحهم، ولتربية العديد من أولادهم الذين كانوا يؤمون مدرسة سيدة اللويزة. وما زالت تشدني إليهم روابط مودة وتقدير، نمت مع الأيام”.
ثم وجه التحية ب”كثير من التقدير، إلى الوجوه الكريمة التي أعطتها جعيتا العزيزة، ماضيا وحاضرا، على مختلف الأصعدة المدنية والكنسية، الثقافية والعلمية”، خاصا بها “وزير الداخلية الأسبق المحامي زياد بارود، ورئيس المجلس البلدي والأعضاء، ومختاري البلدة ومجلسيهما الاختياريين، والمؤسسات الكنسية المتواجدة على أرضها: مطرانية اللاتين، دير مار الياس الرأس للراهبات اللبنانيات المارونيات حيث يوجد أيضا دير الرئاسة العامة، دير راهبات مار يوسف الظهور، إكليريكية الرهبانية الباسيلية المخلصية ومدرسة سان سوفور التابعة لها وكنيسة رعية الصليب إلى جانبها”.
وقال: “ومن المفرح أن نجد في جعيتا رعية زاهرة والتزاما من أبنائها وعائلاتها في مختلف منظماتها ولجانها المعنية بنشاطاتها الروحية والراعوية والثقافية والاجتماعية. نذكر من بينها”رسالة أم” للتنشئة الروحية التي ترافقها حاليا الأختان جهاد وسوسن؛ أخوية مار يوسف؛ جوقة الرعية للكبار، وجوقة الصغار؛ الحركة الرسولية المريمية بأقسامها الخمسة: البالغين والشبيبة والفتيان والأحداث والأطفال؛ لجنة المحبة لمساعدة العائلات المحتاجة مع لجنة كاريتاس؛ اللجنة الليتورجية؛ لجنة المسنين؛ فكشافة مار ميخائيل بأقسامها الثلاثة، اخوية قلب يسوع التي تشكل موسيقى جعيتا”.
أضاف: “إن كل الذين من بينكم ومن الذين سبقوكم، أعطوا وضحوا في سبيل الخير العام سواء في العائلة الدموية الصغيرة، أم في العائلة الاجتماعية، أم في العائلة الوطنية، قد اتخذوا نهج حبة الحنطة. هذا النهج وحده كفيل بأن ينمي الشخص البشري والمجتمع. ولكن لا أحد يضحي بذاته وبشيء إلا إذا سكنت المحبة قلبه، عملا بقول المسيح الرب: “ما من حب أعظم من هذا، وهو أن يبذل الإنسان نفسه عن احبائه” (يو15: 13). نقرأ في كتاب الاقتداء بالمسيح: “يعمل ويضحي كثيرا من يحب كثيرا. يعمل ويضحي كثيرا، من يتقن عمله. يعمل حسنا ويضحي بفرح من يفضل خدمة الجماعة على راحته الذاتية. من كانت فيه المحبة الحقيقية الكاملة، لا يطلب شيئا لنفسه ولا يرجو مكافأة، بل تكون رغبته الوحيدة أن يتمجد الله في كل شيء، لأنه هو مصدر كل خير” (الاقتداء بالمسيح 1/5). ألم يقل بولس الرسول: “ولو كانت لي النبوءة، وكنت أعلم جميع الأسرار والعلم كله، ولو كان لي الإيمان كله لأنقل الجبال، ولم تكن في المحبة، فلست بشيء. لو بذلت كل أموالي إحسانا، ولو أسلمت جسدي لأحرق، ولم تكن في المحبة، فلست بشيء” (1كور13: 2-3)”.
وتابع: “القديس مارون عاش، على خطى المسيح، سر حبة الحنطة بفيض من حبه لله. فعاش ناسكا في العراء على قمة كالوته في جبل سمعان، من أبرشية قورش، على بعد خمسين كيلومترا من حلب لجهة أنطاكية، ودفن في براد. وقد تبعه تلاميذ كثيرون نهجوا نهجه، وتفانوا في بذل ذواتهم حبا بالله. فكتب تيودريطس، مطران قورش، عن القديس مارون أنه “غارس حديقة العيشة الرهبانية النسكية التي تزهر في القورشية”، وأنه هو الزارع لله، في جوار قورش، ذلك الفردوس المزهر، وهو زينة في خورس القديسين الإلهيين”. وكتب عنه البطريرك الكبير المكرم اسطفان الدويهي: “تسحرني أعماله وفضائله. كأني أمدح قديسين في واحد. هو إنسان ملاك على الأرض بين البشر. هو ناسك سعيد عاش بسلام في عزلته. هو واعظ غيور اشتهر بقدرته. هو رسول ذو مشورة بفطنته، لا يمل ولا يكل، لا يسأم ولا يضجر. هو دليل أمين إلى طرق الرب بفهمه وتأديبه الحكيم. هو الأب الطاهر والقديس النبيل الذي يشرف بلاد قورش وسائر المشرق بقداسته وصنع معجزاته. هو مؤسس أمة نشرت، في حقل المسيح، بذور ألوف الفضائل، وأثمرت زينة الكنيسة بقديسيها، وشرفت الأوطان. في وجه مارون اختراق النسر، وبساطة الحمام، ووداعة الحمل، وقوة الأسد وشجاعته” (راجع الأب بيار سعادة: مارون أمام الله وأمام الناس، ص 27-28)”.
وأردف: “من مار مارون، حبة الحنطة، ومن تلاميذه الذين تلألأوا بإيمانهم الكاثوليكي المريمي في مجمع أفسس (431) وبإيمانهم بالمسيح الإله الكامل والإنسان الكامل بطبيعتيه وبسر تجسده في مجمع خلقيدونية (451)، ومن دم الشهداء الثلاثماية والخمسين تلامذة القديس مارون، ولدت الكنيسة المارونية، كسنبلة كثيرة الثمار وانتشرت في لبنان والمشرق وفي بلدان الانتشار. الموارنة مدعوون اليوم للعودة إلى جذورهم، إلى روحانية القديس مارون وتلاميذه، السريانية الأنطاكية؛ إلى نهج حبة الحنطة، إلى سر الموت والقيامة بمفهومه الروحي؛ إلى ثقافة التضحية والتجرد من الذات بغية تأمين الخير الأكبر والأشمل؛ إلى عيش هذه الثقافة في الحياة الزوجية والعائلية، في الكنيسة، في المجتمع؛ وإلى التواجد في كل مكان بروحانية التجسد الإلهي، مثل “الخميرة في العجين، والملح في الطعام” (متى 13: 33؛ 5: 13)”.
ورأى أنه “لا يمكن النهوض بلبنان، سياسيا واقتصاديا وإداريا، من دون رجال ونساء يضحون بسخاء ويعملون ببطولة المحبة، وبتجاوز المصلحة الذاتية الصغيرة. ولا يمكن الوصول إلى ملء الفراغ الرئاسي وانتخاب رئيس للجمهورية، من دون رجالات سياسة ودولة يدركون أن لبنان-الوطن والدولة أكبر منهم جميعا، ولا يحق لأحد رهنه لحساباته”، معتبرا أن “ممارسة المسيحيين للعمل السياسي وللسلطة السياسية، ولا سيما من أبناء القديس مارون، تستدعي التميز بروح الخدمة، على مناقبية وكفاءة، وبالشهادة للقيم الانسانية والانجيلية، وبالاستنارة بالمبادئ التي تعلمها الكنيسة، وبالتضحية المتفانية في سبيل الخير العام”، مشيرا إلى أنه “عندما فصل الرب يسوع بين الدين والدولة، بقوله:”أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله” (متى 22: 21)، كان يدعو إلى واجب الجمع بين العمل السياسي والمبادئ الروحية والأخلاقية، وواجب التناغم بين الروحي والإنساني، وواجب الخضوع لموجبات الدولة كوطن أرضي ننتمي إليه بالمولد وسنتركه بالموت، والخضوع في آن لموجبات الوطن السماوي، الذي ننتمي إليه بالإيمان ونسعى إليه عبر القيام بواجباتنا تجاه الدولة والمجتمع وتجاه الله”.
وقال: “إن سنة الرحمة التي دعا إليها قداسة البابا فرنسيس، وافتتحها ونحن معه في 8 كانون الأول الماضي، تدعونا في زمن الصوم الكبير الذي نبدأه غدا، إلى وقفة مع الذات لمحاسبتها ومساءلتها تحت نظر الله في ضوء كلامه، “كلام الحياة الأبدية” (يوحنا 6: 86). وتدعونا إلى التوبة والعودة إلى الله، من أجل تحرير الذات، من كل ما يعيقها عن الالتزام بخدمة الخير العام اليوم وفي كل لحظة من حياتنا. إن قلوب البشر بحاجة إلى رحمة ومشاعر إنسانية، لكي نعيش جميعنا بطمأنينة وسعادة، ونتعاون بثقة في خلق مجتمع أفضل”.
وأشار إلى أن “تاريخ الكنيسة المارونية، من القديس مارون إلى اليوم، يمتاز بأشخاص كنسيين ومدنيين تذوقوا قيمة الخلوة مع الذات أمام الله، وأتوا بأعمال إصلاحية كبيرة. ونذكر على الأخص بطاركة يانوح وإيليج وقنوبين. وترصع جبين كنيستنا بحبساء انقطعوا عن العالم، للتقشف والصلاة في المغاور والمناسك، من أجل خلاص العالم واستمرارية عمل الفداء. فلا بد، من أجل إنجاز أي إصلاح في المجتمع، من البدء بإصلاح الذات”.
وختم: “هذه الأمثولة يعطينا إياها القديس مارون في يوم عيده. فلنرفع معه ومع طغمة أبنائه وبناته الأبرار نشيد المجد والتسبيح لله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين”.
وطنيّة