وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي الرسالة الكهنوتية الخامسة لمناسبة خميس الأسرار إلى الكهنة بعنوان “أنا بينكم كالخادم” (لو22: 27)، جاء فيها:
“أيها الكهنة، أخوتنا في الكهنوت، المحترمون والأحباء
1. يسعدني أن أكتب إليكم، ككل سنة، حيثما أنتم، في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار، باسم إخواني السادة المطارنة رعاتكم، في عيد تأسيس كهنوتنا المشترك وسر القربان. الغاية من الرسالة تأكيد محبتي لكم، ولكل واحد منكم، بصفتي أبًا ورأسًا لكنيستنا الأنطاكيه السريانية المارونية، وشد روابط الشركة بين الجسم الأسقفي والجسم الكهنوتي، وبين شعبنا ورعاته، على أساس الشركة العميقة التي نعيشها اتحادًا كاملاً مع الله الواحد والثالوث. وأود أن يكون موضوع الرسالة: “الخدمة الكهنوتية”، انطلاقا من مثل حياة الكاهن الأسمى يسوع المسيح: “أنا بينكم كالخادم” .
كهنوت الخدمة
2. نحن الكهنة، من افخارستيا تلك الليلة السابقة لآلامه، ولدنا، وصورنا، بمسحة الروح القدس، على شبه كيان المسيح الكاهن، ودعينا “ملوكا وكهنة”، وفرزنا من بين الناس، وأقمنا لدى الله من أجل الناس” ، لخدمة الله ووعده الخلاصي لدى شعبه، الذي جعله “جيلا مختارا، وكهنوتا ملوكيا، وأمة مقدسة، وشعبا مقتنى، ليشيد بحمد الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب” .
3. الكهنوت كنز نحمله نحن في آنية من خزف، أما قدرته الفائقة فهي من الله لا منا ، وقد أعطيناه من أجل خدمة جسد المسيح، فينمو في كل شيء للذي هو الرأس: “به يتماسك الجسد كله، ويلتحم بفضل جميع المفاصل التي تقوم بحاجته، حتى إذا قام كل جزء بعمله الخاص به، نما الجسد كله وتكامل بنيانه بالمحبة”. إنها مهمتنا وشرف دعوتنا، أن يحقق فينا الروح القدس إرادته في خدمة جسد المسيح السري. فهو، ليس فقط، يصورنا على صورة المسيح، بل يجعل المسيح ينمو فينا؛ وهو الذي يحفظ خدمتنا الكهنوتية من الانحدار إلى مستوًى وظائفي، فيبقينا خدام عمل المسيح الذي يتواصل في التاريخ بواسطتنا، وهو يذكرنا بدعوة المسيح لنا أولا: “لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم، وأقمتكم، لتنطلقوا، وتأتوا بثمار، وتدوم ثماركم، فيعطيكم الآب كل ما تسألونه باسمي” .
خدمة بسخاء
4. كهنوتنا مجاني، نابع من سخاء قلب المسيح وحبه الأعظم، ولا يقاس بثمن. وهو يدعونا لنمارسه بسخاء، وحب، ومن دون حساب شخصي أو مادي. فكونوا أسخياء في خدمتكم حتى الجود بالنفس؛ واعلموا أن فرح خدمتنا يكمن في البر الذي دعينا لنتمه. فالمزمور يقول:” ليلبس كهنتك البر، وليرنم أصفياؤك” . البسوا البر، أي الطاعة لكلمة الله في عمق كيانكم. ولتكن طاعتنا بحب. ففيها الدخول في طريق القداسة، والسير في الحق، والنمو في الوحدة.
احفظوا عليكم فضيلة “النسك” في قلب عالم يتخبط في ذاته، فلا تنحدروا إليه، بل اسعوا إلى أن ترفعوه نحو جبل التجلي، حيث يرتسم وجه مجد المسيح الذي يجتذبنا “بقدرة ذاته لنقتفي آثاره” .
الخدمة بسخاء العطاء تولد فينا الفرح المتأتي من أن الرب المسيح يرانا من دون أن نراه. هذا كان وعده لنا: “سأعود وأراكم، فتفرح قلوبكم؛ وفرحكم هذا لا ينتزعه منكم أحد” . لذا، كرر بولس الرسول الدعوة: “إفرحوا في الرب على الدوام، وأقول أيضًا، إفرحوا” .
خدمة للكرازة بالإنجيل
إن الدعوة التي يكررها قداسة البابا فرنسيس “للخروج” من الذات نحو الآخرين، في “ضواحي” الجهل الديني والفقر الروحي والمادي والأخلاقي، والابتعاد عن الكنيسة، والحرمان من ينابيع الخلاص، تحملنا على “الخروج” من الطمأنينة الخادعة، التي تقتصر على “تتميم الواجبات” في ما نقوم به من خدم طقسية ورتب بيعية، ونشاطات غالبا ما توصف بالجيدة، فهي، على أهميتها وضرورتها، لا تفي بالمطلوب الأساسي الذي أوكله لنا المسيح الكاهن الأزلي، أعني الكرازة بالإنجيل: إذهبوا إلى العالم كله وبشروا بالإنجيل الخليقة كلها” .
تقوم الحياة النابضة في الكنيسة على التبشير بالإنجيل والعمل الإرسالي، حتى ليمكن القول إن الرئة التي تتنفس منها الكنيسة هي الكرازة. يقدم لنا كتاب “أعمال الرسل” مثلاً عن الكنيسة التي في أنطاكيه، كيف، عندما فرزت بولس وبرنابا للتبشير، ازدهرت، ونمت، وانتشرت كلمة الله في الناحية كلها، بقوة الروح القدس الذي أرسلهما ؛ وها بولس الرسول، يذكرنا بكلمة الرب لكل واحد منا، يوم رسامته الكهنوتية: “إني جعلتك نورا للأمم، لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض” . ثم إن حقبات الخصب والنضارة في حياة الكنيسة، هي تلك التي شهدت فترات تبشير وكرازة، عكس الجفاف الروحي والتصحر الذي يصيب الكنيسة عندما تهمل الأنجلة والإرسال.
في الرعية، أيضا، ما في الكنيسة من مؤشرات. حميد هو الحضور الكثيف في كنيسة الرعية عند محطات معينة من السنة، لكنه يصبح مؤشرا خادعا إذا ما قوبل بالحضور العادي أيام الآحاد، أو إذا قيس مع عدد سكان الرعية، أو مع الدعوة إلى لقاءات إنجيلية ورياضات روحية في زمن الصوم وسواه. الإقبال على سماع الكلمة يقود، حتمًا، إلى التزام ناضج وواع في حياة الكنيسة ورسالتها، فيما العكس غير ممكن.
واصلوا في رعاياكم ما بدأته الكنيسة في يوم العنصرة، عندما انتشر الرسل، المستمدون القوة من الروح القدس، في شوارع أورشليم، بغية التبشير بإنجيل المسيح. فازرعوه في حقل رعيتكم، واسهروا عليه من الزؤان. احذروا من الشعور باليأس عند عدم التجاوب معكم، ومع جهودكم وتضحياتكم، فربما تبرروه بالقول: “زمرنا لكم فلم ترقصوا، ونحنا لكم فلم تبكوا” . تذكروا المزمور القائل: “الذين بالدموع يزرعون، بالتهليل يحصدون. يذهب باكيا وهو يحمل البذر، ويرجع مهللا وهو يحمل حزمه.
خدمة رعاة يلمسون الجراح
7. لقد ألقي على أبناء كنائسنا إثم أصحاب الشرور والاعتداءات في منطقتنا الشرق أوسطية. فهم يرغمون على ترك بيوتهم وأرزاقهم وجنى عمرهم، ومنهم من يؤسرون، ويخطفون، ويعتدى على كرامتهم، ويقتلون. هذه الكثرة من الوجع والدم ترقى بنا وبسائر الكهنة من مختلف الكنائس، إلى مستوى جسد المسيح الواحد، الذي هو الكنيسة بمفهومها الشامل، ويتخطى حدود الرعية، والأبرشية، والكنيسة الخاصة، فتضحي هذه كلها بوابات عبور إلى العضوية المباركة في الجسد السري، الذي رأسه يسوع المسيح. إلى هذا الجسد – جسده، يرسلنا المسيح اليوم، نحن الذين مسحت أيدينا بميرون مسحة الروح، لكي نلمس جراحه، ونبلسمها، ونحمل معه أوجاعه ونكون “قيروانه” .
لقد ألقى أعداء صليب المسيح يدهم على شعبنا الوادع، ودفعوه الى حمل أثقال شرورهم وغيهم. لا ضيم في ذلك، فالمسيح نفسه قال لنا: “سيسلمونكم إلى العذاب ويقتلونكم. ويبغضكم الجميع من أجل اسمي… فمن يثبت إلى النهاية يخلص” .
لقد اختار الجميع الثبات في الإيمان، وشهدوا للملأ أن الرب يسوع، لا يزال يستحق، في الألف الثالث، أن نترك، من أجله، كل شيء. ثبتوا اخوتكم، لطفوا عليهم عناء الحياة، امسحوا عن وجوههم العرق والدم. ولا تنسوا، بصلاتكم وغفرانكم، من ارتكبت أيديهم جرائم ضد الإنسانية، فتمسحوا عن جبين إنسانيتهم، المخلوقة على صورة أصلا، الخزي العار.
خدمة رجاء
8. أولادكم، وأخوتكم، وأخواتكم في الإيمان، يجوعون اليكم، الى توجيهاتكم وارشاداتكم ومحبتكم، وإلى عطفكم وخدمتكم ولمستكم. فأنتم سراج حجهم نحو الآب، لا تتركوا شعلة سراجهم تنطفئ. عيون الجميع تنظر إلينا لنعطيهم الطعام في حينه، كما أوكلنا الرب يسوع . فنحن لا نحيا لأنفسنا بل للذي دعانا.
لا يزال يفرحنا حقا أن يعتبر المؤمنون كهنوتنا انعكاسا صافيا لكهنوت المسيح، وهذا حق. فإذا أحبونا أحبوا الله، وأحبوا الكنيسة، ومارسوا إيمانهم، وإذا رفضونا رفضوا الله والكنيسة، وحادوا عن الطريق القويم. لا يمكننا أن ندينهم، فهم، بهذا الموقف، يدعوننا، فقط، لنكون كهنةً ليس إلا وهم بهذا محقون.
تذكروا وصية بطرس الرسول: “ارعوا رعية الله التي أقمتم عليها، لا قسرًا، بل عن رضى، بحسب شريعة الله، لا طمعا في مكسب خسيس، بل عن بذل ذات، لا كمتسلطين على نصيب خاص، بل كمن يكون مثالاً للرعية؛ ومتى ظهر راعي الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يذوي” .
لا تفقدوا الرؤية وقوة الرجاء. فعندما يتلبد الأفق، ينظر إليكم. إن ضميركم المستنير بكلام الله، يرى الحقيقة ويميزها، ويسير نحوها بخطى واثقة، والخراف تتبعكم، لأنكم رعاة صالحون، فلا تخافوا. إلى حماية أمنا وسيدتنا مريم العذراء، سلطانة الرسل وأم الكهنة، نكل كهنوتنا، فيما نجدد، حول أساقفة أبرشياتنا، أمام القربان، في يوم خميس الأسرار، عهدنا الكهنوتي الذي قطعناه يوم رسامتنا. مع صلاتي ومحبتي وبركتي الرسولية”.