بات الخطاب الاعتذاريّ والتبريريّ ممجوجًا. بات حجّة أقبح من ذنب. باتت الصور التي تجمع الأئمة والبطاركة غير مقنعة… فما جرى في ليبيا، وقبلها في كلّ بقعة من بقاع هذا الشرق المتألّم، لا يجوز أن يواجَه بخطاب ببّغائيّ مضمونه عدم مسؤوليّة الأديان عن انتشار الإرهاب في ديارنا. فإنْ كان بديهيًّا القول بعدم مسؤوليّة الأديان فهذا لا يعني البتّة عدم مسؤوليّة المؤسّسات الدينيّة وقادتها في تنامي التطرّف ورفض الآخر المغاير، وإنْ كان هذا الآخر منتميًّا إلى الديانة نفسها.
وإذا كان صحيحًا التأكيد على كون الإسلام بريئًا من جرائم “داعش” وأفعاله الشنيعة، غير أنّ تعميم ثقافة الكراهيّة ونبذ الآخر الدينيّ أو المذهبيّ فمسؤولة عنه المؤسّسات الدينيّة التي لم تقم بواجبها في تعميم ثقافة الاحترام المتبادل والمساواة التامّة بين المسيحيّين والمسلمين. كما أنّ تلك المؤسّسات نفسها مسؤولة عن تعميم ثقافة الكراهيّة بين المذاهب الإسلاميّة، إذ إنّها لم تقم بما يكفي لإزالة أسباب الانقسامات والخلافات الدينيّة ما بين المسلمين أنفسهم.
ما نشهده اليوم ليس سوى حصيلة عقود من الفكر الدينيّ المتشدّد. فمنذ نصف قرن تقريبًا بدأنا نشهد انتشار الخطاب الدينيّ التكفيريّ وتكاثر الحركات التي تتوسّل العنف من أجل تحقيق أهدافها. فمؤلّفات سيّد قطب (المفكّر المصريّ الذي مات إعدامًا عام 1966) أسهمت في بروز إيديولوجيا إسلامويّة تبرّر تكفير المجتمعات التي لا تعتمد الشريعة الإسلاميّة في الحكم، وتتبنّى الإرهاب سبيلاً وحيدًا للوصول إلى ما تصبو إليه.
وما انتشار “داعش” وتوسّعه سوى نتيجة حتميّة لتصاعد هذا الإسلام التكفيريّ، وعدم قدرة المؤسّسات الدينيّة الرسميّة على مواجهة الفكر التكفيريّ بفكر منفتح على العصر. لقد أُغلق باب الاجتهاد، وإنْ قيل العكس. فإلى الآن ترعى الدولة المواطنين الأقباط بقوانين وفرمانات ترقى إلى أيّام الدولة العثمانيّة… أمّا المؤسّسات الدينيّة الخاضعة للنظام القائم فتصمت عن الغبن اللاحق بشركائها في الوطن، فلا تسعى إلى اجتهادات فقهيّة حديثة تتبنّى المساواة التامّة ما بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات. ولنا، على سبيل المثال، في القيود الموضوعة أمام السماح ببناء الكنائس والتسهيلات الهائلة أمام بناء المساجد مثالاً ساطعًا على التفاوت في المعاملة.
نعم، المسيحيّون هم أهل الكلمة، هم أهل يسوع المسيح وخلاّنه الأقربون. هم أهل الجرح، إذًا، والكلم يعني بالعربيّة الجرح. هم ليسوا أهل كتاب ولا أهل ذمّة، ولا يرضون أن يكونوا في ذمّة أحد. لكنّهم يدركون أنّهم مدعوون إلى أن يكونوا شهودًا للكلمة في هذه الديار المباركة ولو تطلّب الأمر دمًا وآلامًا وعذابات وجراحًا مفتوحة أبدًا.
يعتبر التراث المسيحيّ ضمن إطار عقيدة الفداء أنّ المسيح قد “طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا، نزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجرحه شفينا”. وإن كان من المسلّم به لدى المسيحيّين أنّ المسيح هو الفادي الوحيد، إلاّ أنّ دعوة المسيحيّين المشرقيّين اليوم هي أن يصبحوا كلمات، يصبحوا جروحًا تمحو معاصي هذا الشرق وآثامه، فيشفونه بآلامهم من كلّ ما فيه من مآس وحروب وويلات، ويحلّون السلام حيثما وُجدوا. حينذاك فقط يستطيع المسيحيّون أن يعيّدوا قيامة المسيح من بين الأموات، ويعيّدوا قيامتهم هم أيضًا من جحيم يحيط بهم من كلّ حدب وصوب.
ذكّرنا مشهد الشهداء الواحد والعشرين بما قاله إشعيا النبيّ في نبوءته: “كحمل سيق إلى الذبح، كنعجة صامتة أمام الذين يجزّونها، ولم يفتح فاه” (53، 7). يُجمع التراث المسيحيّ على القول بأنّ هذه النبوءة تحقّقت يوم صُلب يسوع المسيح، فهو الحمل الذبيح الذي افتدى العالم بدمه. لكنّ المسيح قال لتلاميذه إنّ مصيرهم لن يكون أفضل حالاً من مصيره: “إنّهم سيُخرجونكم من المجامع، بل ستأتي ساعة يظنّ فيها كلّ مَن يقتلكم أنّه يقرّب لله قربانًا” (يوحنّا 16، 2). هم، طوباهم، على مثال سيّدهم سيقوا إلى الشهادة، فعبروا من الحياة إلى الحياة.
الشهداء الذين سقوا تراب ليبيا بدمائهم الزكيّة يصحّ فيهم ما أنشده صاحب المزامير حين قال: “هؤلاء بالمركبات وأولاء بالخيول، أمّا نحن فاسمَ الربّ إلهنا ندعو. هم ترنّحوا وسقطوا، ونحن قمنا وانتصبنا” (20، 8-9). نعم، هم قاموا وانتصبوا في حضرة الله. أمّا المسيحيّون، نسل الشهداء والقدّيسين، فعليهم أن يثبتوا حيث هم، جغرافيًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا وحضاريًّا، إلى أن تعبر المحنة. هذا صليبهم المحيي فليحملوه. القيامة آتية لا ريب فيها، وقد أتت.
النهار