«تفضّل عريس بهالليلة شعشَع دارك، وصلوا الزوّار قوم استقبل زوّارك!». بُحَّت حنجرتُها وهي تصرخ وسط الطريق تُراقص نعش أخيها تحت المطر، تمسكُ صورته تُقبّلها مرّةً وتتوسّله لو يستيقظ مراراً، «قوم lello، قوم حبيبي». أمس انتحبت الأشرفية زهرةَ شبابها الياس وارديني (25 سنة)، ورَقصت بلدة البيرِة الشوفيّة الرقصةَ الأخيرة مع عريسها هيكل مسَلّم (36 سنة). وداعٌ مزدوج لشهداء اعتداء اسطنبول أوجَع لبنان في الصميم فبَكت سماؤه وفاضَ بحره بالدموع.كاد يُخرج الياس وارديني رأسَه من نعشه الأبيض ليُهدّئ من روع شقيقاته الثلاث اللواتي فَقدن الوعي مراراً لعجزهنّ عن استيعاب حقيقة رحيله المبكر. كاد يُطلّ الياس، الأخ الحنون، برأسه من التابوت، خلال مراسم جنازته أمس، ليُطمئنهنّ أنه بخير، وأنه ذاهب بفرح لملاقاة حضنِ أمّه وكتِف أبيه، موعد لطالما انتظره بفارغ الصبر، وعبّر عنه صدفةً قبل الحادثة، فكتبَ لوالدته: «أشتاق إليكِ في الميلاد… أتمنّى لو أستطيع أن أكلّمك، لديّ الكثير لأقوله، الحياة تغيّرَت كثيراً منذ رحلتِ… أنتِ في قلبي وعقلي. سأشعر بقربك لي دائماً، وعلى الرغم من أنّكِ بعيدة عن نظري، سأبحث عنكِ بين النجوم التي تشرق ليلةَ الميلاد».
«قوم يا عريس»
شكّلت مستشفى القدّيس جاورجيوس في الأشرفية المحطة الأولى في وداع الياس، حيث غادر جثمانه قرابةَ العاشرة صباحاً محمولاً على أكتاف محبّيه، فيما حبيبتُه ميليسا بابالاردو التي لم تَعلم بعد بالفاجعة، كانت لا تزال تتلقّى العلاجَ في إحدى الغرَف نتيجة كسرٍ في الورك.
على وقعِ المفرقعات النارية التي أشعَلت سماء الأشرفية وهزّت جدرانَ منازلها، انطلقت مسيرة الجنازة في اتجاه كنيسة سيّدة الدخول للروم الأرثوذكس، حيث كان في ملاقاة «العريس» زفّة استقبلته بـ»الطبل والزَمر»، فاختار صديقُ طفولته مراقصةَ صورته، فيما ابنُ الحيّ حضَن غطاءَ نعش إلياس، كمن يَروي ظمأ حنينِه للمرّة الأخيرة.
نحو ربعِ ساعة والعريسُ يُنقَل «من كتف لكتف» قبل أن يدخل الكنيسة التي تزيّنت بالورد الأبيض لاستقباله، فعلى كلّ مقعد رُبطت 3 ورود بيضاء بشريط أبيض، كذلك فُرش المذبح بالورد الأبيض. أكثر من مرّة أُدخِل وأخرِج العريس إلى الكنيسة ورفاقُه يهتفون له: «قوم يا عريس نرقص»، وكان الموعد الجديد مع فرقة المتين التي عزَفت له أغانيَ وطنية، والأهالي يُردّدون: «طَلّوا حبابنا طَلّوا… نَسّم يا هوا بلادي».
المطران عودة
ومع اقتراب موعد جنازة الياس عانقَت أجراس الكنيسة السماء اشتياقاً، وغصّت المقاعد بالمؤمنين وضاقت الساحة بالمحبّين الذين توافَدوا للوداع الأخير. وعلى مسامع الحاضرين صَرخت شقيقة الياس: «please بَدنا نزقّف كِلنا لـ lello»، فما كان من الجميع إلّا أن لبّوا النداء.
بحرارةٍ علا التصفيق وانهمرَت الدموع. بَعدها ترَأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، يعاونه لفيفٌ من الكهنة، صلاةَ الجنّاز.
وألقى عظةً، أبرزُ ما جاء فيها: «الياس كان يُحبّ كما نُحبّ، وكان أميناً في محبّته ومضَحياً لمَن يُحبّ، فنحن المسيحيين نؤمن بالقيامة، نحن ملتصقون بالرب الذي قام من بين الأموات، ممّا يعني أننا سنقوم، فكلّما نأخذ من دمِه وجسده نصبح واحداً معه، وهذا إيماننا، ونحن نقول عندما نتناول جسدَ المسيح إنّنا أحياء ولا يستطيع الموت أن يتغلّب علينا».
وأضاف: «الياس الذي كان يحبّ المسيح ولا يريد بأيّ شكل من الأشكال أن ينساه، كان مالئاً جدرانَ غرفته بالأيقونات، علاقتُه مع المسيح خاصة، لأنه لم يُرد بأيّ حال من الأحوال أن يدخل الكبرياء إلى قلبه، عائشاً بوحدةٍ مع يسوع والعذراء والقدّيسين.
ولذلك نقول للعائلة ولجميع من يحبّه: إيمانُنا بأنه لم يمُت». وختَم قائلاً: «نَفتقد الياس والدموع تجري، لكنّنا كلّنا نتمنّى أن نكون مع الله، خالصين من هذا العالم، ولكن خوفنا لأنّنا لا نؤمن. وهذا الذي نودّعه اليوم إنسان عرف فضيلته وعرف المحبّة والتضحية، فلا نخاف ولا نحزن».
كلّما كان عودة يُعدّد مزايا الياس، كانت شقيقاته يُردّدن: «صَح، صَح» على مسامع الحاضرين قبل أن يَستسلمن لدموعهنّ، فتُعانق أختُه الكبرى صورته، فيما الثانية تقترب من نعشه وتتربّع أمامه على الأرض تُخاطبه همساً، فيما الصغرى تمسِك المسبحة بيديها المتشابكتين وتغوص في البكاء. إنتهى الجنّاز وبحنان الأب ورفقِه اقتربَ المطران عوده ولفيفٌ من الكهنة يقدّمون واجبَ العزاء لعائلة وارديني، فكان العناق المعبّر من الشقيقات اللواتي «أخدنَ روح من سيّدنا».
اللحظة الأخيرة
لم يدُم هدوء الشقيقات المفجوعات أكثر من ثوانٍ، فسرعان ما عدنَ لينتحبنَ أخاهنّ وهنّ يلقين النظرة الأخيرة عليه بعد فتحِ نعشِه نزولاً عند رغبتهنّ. هبّت واحدة تُقبّل جبينَه، الأخرى تَفرك يديه، والثالثة تُحسّن له بزّته، مردّدةً: «يا تقبُرني يا خيّي». وداع «سَلخ» قلوبَ المؤمنين الذين صفّقوا له طويلاً وهو يغادر إلى مثواه الأخير ليوراى الثرى في مدافن العائلة في مار متر على وقعِ أغانٍ وزفّات عرس.
… في الشوف
كأسُ الحزن نفسُها تَجرّعتها بلدة البِيرة الشوفيّة، فمنذ الصباح الباكر توافدت النسوة إلى باحة كنيسة قلب يسوع، حيث رقصنَ كالطيور المذبوحة ألماً مع صور العريس هيكل حنا مسَلم معلّم التربية البدنية. قرابة الحادية عشرة وصَل جثمان «العريس» إلى الضيعة على وقعِ رشّ الورد والأرزّ، وزغاريد الأهالي المفجوعين، دخلَ هيكل للمرة الأخيرة الكنيسة محمولاً على الأكتاف.
وعند الثالثة بعد الظهر، ترَأس رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر ممثّلاً البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الصلاةَ، عاوَنه فيها النائب العام لأبرشية بيروت المونسنيور جوزف مرهج ولفيفٌ من الكهنة.
وبعد الإنجيل، ألقى مطر كلمةَ رثاءٍ تحدّث فيها عن الفقيد وحبّه للبنان: «إسمُه هيكل وعندما رأى الرب يسوع، هيكل أورشليم، قال لسامعيه من اليهود: انقُضوا هذا الهيكل وأنا أبنيه بثلاثة أيام. ويقول الإنجيلي، كان يتكلّم عن هيكل جسده، أنّه بعد ثلاثة أيام سيقوم منتصراً على الموت والعداوة والبغضاء بصليبه.
واليوم هيكل ينتصر بالمسيح على الموت». وأضاف: «المأساة هنا وَقعت وحصَدت هذا الشاب مع رفاق له أعزّاء، من لبنان والعالم. نصلّي لأجلهم جميعاً، كما نصلي لشفاء الجرحى».
إلى ذلك، تستعدّ بلدة جون الشوفية لوداع ابنتها ريتا الشامي غداً الخميس في كنيسة سيّدة الانتقال، بعد الصلاة لراحة نفسها في مطرانية بيروت للروم الكاثوليك – طريق الشام.
شعبٌ «مندور»، شعب بكلّ «عرس إلو قرص»، يَحار المرء في توصيف حال اللبناني، وكأنّه والفرح نقيضان… ولكن أيّاً تكن الظروف، يبقى حبّه للحياة أقوى، ويَكفي أنّه لا يحزن «كالناس الذين لا رجاءَ لهم».
نتالي اقليموس
الجمهورية