ودعت الرهبانية الأنطونية المارونية المدبر العام الأسبق الأب يوحنا الحبيب صادر بجناز في كنيسة دير مار روكز – الدكوانة – مركز الرئاسة العامة للرهبانية، بمشاركة الرئيس العام الأباتي داود رعيدي، راعي أبرشية بعلبك دير الأحمر المارونية المطران سمعان عطاالله، راعي أبرشية جبل لبنان وطرابلس للسريان الارثوذكس المطران جورج صليبا والآباء المدبرين والفنان غدي الرحباني والمسرحي رفعت طربيه والملحنين أنطوان غبريل وجان عون وحشد كبير من الرهبان والكهنة والراهبات والأهل والأصدقاء من مختلف البلدات التي خدمها الراحل خلال حياته وخصوصا من أنطلياس، حيث عمل لسنين عديدة وترأس الحركة الثقافية – أنطلياس لفترة طويلة، وكان له الفضل الكبير في إحياء الليتورجية وتجديد الإنشاد الكنسي تجدر الإشارة ان للمرحوم الأب صادر مؤلفات عديدة في علم الآثار والفن الكنسي واللاهوت، وبرع في مجالات فنية عديدة وخصوصا الرسم والإنشاد وألف أناشيد ليتورجية عديدة وضع ألحانها المايسترو الأب يوسف واكد ومنصور والياس وزياد وأسامة الرحباني وانطوان غبريل ونداء أبو مراد وجان عون وغيرهم من الملحنين.
وفي ختام مراسم الجناز، تم التطواف بجثمان الأب صادر محمولا على أكتاف إخوته الرهبان والكهنة حول المذبح المقدس ثم شيع في موكب مهيب إلى مدافن الدير.
وكان الرهبان الأنطونيون توافدوا منذ الصباح للصلاة وإلقاء نظرة الوداع على الجثمان الذي سجي في الكنيسة، وتناوب الكهنة على الإحتفال بقداس المرافقة على مدار الساعة لراحة نفسه.
وبعد الإنجيل، ألقى رعيدي عظة قال فيها: “لنمدح الرجال النجباء الذين أورثونا ثمار جهودهم وعظمة إبداعهم. لننحن إجلالا لمن تجلت في حياتهم رحمة الرب ونعمه، لنهلل مع كل الذين في المسيح صاروا خليقة جديدة وانتصروا على أسباب الموت، وحملوا بشرى الحياة إلى الأجيال، فصاروا على مثال المعلم خبزا مكسورا على مائدة العالم، ولننشد معهم: المسيح قام! حقا قام. الكلام في حضرة هذا الرحيل، لا هو بحبر اليوميات مكتوب، ولا على ورق عادي نخطه كلمات ونلقيها عظة على غرار عظات الموت ومناسباته. إنما في هذا المشهد الأخير لأخينا الأب يوحنا الحبيب صادر، أراني أستعير من ريشته وعدة ألوانه ومحبرة رسمه ما شكله من كلمات ومعان، وما تماهى به لونا وظلا وأشكالا ذات أبعاد ابتهالية مع الله، لأتمكن من أن أفي أبانا، صديقنا، حق سيرته المشمولة بنعم الله، في لحظة وداع تصعب علينا وعلى عائلته ومحبيه، غير أنها تسهل في القلب والروح إذا ما التفتنا صوب سنوات حياته وما حققه على مذابح الرب وكنيسته من خلال نهجه الفكري، والادبي، والليتورجي، والفني، والإنشادي… لأنه يتكامل بالعمق مع دعوته الأبوية والرهبانية”.
أضاف: “إن الأب يوحنا الحبيب، الأنطوني السيرة، والمسيرة، والدعوة، والالتزام، جعل مرسمه سمة علاقته بالخالق وجسد يوميات حياته قربانة مرسومة بقلبه لا بيده فحسب، مرسومة بدائرة إيمان بدأها مع المسيح وما أنهاها إلا به، فأمضى سنوات خدمته الديرية والرعوية في أنطلياس، وبحرصاف، وكندا، ومار أشعيا، والدكوانة، وقبرص، وزغرتا وإهدن، أمضاها خادما مربيا منشئا أبناء الكنيسة على لغة روحية لها ميزتها في الليتورجيا، وقد من الله عليه بها ليؤسس أفهومة جديدة في القداديس والصلوات على وقع كلماته وأدبه ونصه المنمق بيد ربانية، كما على إيقاع صوته النابع من جوارح إيمانية فاضت على مذابح الرب، فأضافت لدى سامعيه الـمصلين في قداديسه إصغاء مغايرا لصوت الله في بنيه، إذ جعل صوته خادما لربه يسبحه ويرفع معه الناس الى مقامات روحية عميقة ذات صدى سماوي مختمر”.
وتابع: “إليك اليوم، أخانا الأب يوحنا الحبيب، وأنت ممدد أشبه بلوحة كبرتها مع كل نفس من أنفاس يديك وقلبك وإبداعك وصلاتك المنقوشة بأدائك الصامت… فلم تكتف بالبحث عن تراثات ونقوش مسيحية شرق أوسطية قعدتها في موسوعة من الكتب الدينية، بل صرت منحوتة تختصر التواريخ والأحداث والمعالم المسيحية. إليك نرسل كلمات الرجاء لا العزاء، وسؤالا عن فرحك بلقيا ربك بالروح، بعدما التقيته لسنين هنا بالجسد والعمل وتقريب الصلاة والتضرع والذبيحة، والتنقيب في الآثار وكأنك تبحث عن أول نقشة ليد الله في أرض وتراب وصخرة هي الكنيسة أمك…ها أنت اليوم تحمل زوادتك، كتبك أناشيدك واللوحات، وقد كثفتها وأكثرتها في بيتك وحياتك وكنائس خدمت فيها ورفعتها بصوتك مناجاة لله في كل طقس كنسي وزمن روحي. ها أنت أيها الأب الحبيب تحمل وزناتك في روحك وتقدمها للخالق بعمق رؤياك ورؤيتك، بإبداع فنك ورسمك، وبزهو صلاتك وكتاباتك المتأملة لتنشر في بيوته الكثيرة عبق طبيعتك الفنية، وبخور شاعريتك الموشحة بأنغام دينية، فتفرح بك المطارح هنالك، ويتعزى أهلوك وأخوتك ورهبانيتك ورعيتك وأبناؤك ههنا بأن ما كرسته على مدار سنوات وسنوات يتمجد اليوم في ديار الرب. مع هذا الإيمان كما ولدته ونميته وخلفته وراءك، لا مجال للحزن بل كل المساحات هي مساحة صلاة وتأمل بما تأملت به. إن روحك الـمرنـمة بالترتيل وبالرسم وبالكتابة تأخذ طريقها إلى أعاليه وتلون سقف السماء بقرميد لوحاتك، فمن قرب مواهبه المتعددة بالكلمة والصوت والفن، لن يكون له ثواب أقل من قباب مقدسة علق عليها عشرات جدارياته، وزينها أيقونات ورفعها ابتهالا بيديه كما ترفع الأيادي عندما نصلي: “أبانا الذي في السماوات”.
وقال: “منذ ما يقارب السبعين سنة 1945 دخلت الرهبانية الأنطونية ملبيا نداء الرب لك، فسرت معه إلى العمق، تنهل من تماهيك مع السيد غذاء لنفسك وللآخرين، فتاجرت بالوزنات، وكانت وفيرة، أغدقها عليك الرب، ودوما من أجل نشر كلمته، وتسهيل الطريق على إخوتك والمؤمنين للولوج إلى مراقي الروح، ولذة العبادة، ووجودية الانتساب إلى كنيسة عريقة، غنية، كان لك الفضل الكبير في تقاسم غناها مع المؤمنين. لقد تنقلت في الكثير من المسؤوليات في الرهبانية، وأسهمت في تطورها وتموضعها في الكنيسة، خاصة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، فكنت رائد التجدد الليتورجي والروحي النابع من عراقة التاريخ، فعملت مع الكثير من الأنطونيين الأحياء منهم والذين سبقونا إلى دنيا الحق، إلى حيث توجد الآن، لنقل البشارة بلغة إيمانية سهلة المنال، عميقة المعاني. فقدت مسيرة ليتورجية رائدة، وعملت في الكثير من قطاعات الرهبانية، وكان لك اليد الطولى في المعنى اكثر مما أسهمت في المبنى، لذا ستبقى بصماتك دلالات دائمة لكل من يريد أن يحمل البشارة، وآثارك ومضات نور توجه خياراتنا التعليمية لمن يريد أن يأون الإنجيل في عالم متغير يعتقد أن الوسيلة قد تفوق المعنى. فأمام عطاياك ننحني، يا أخانا يوحنا، لأنك أعطيت ثمرا كثيرا فتفاعلت مع السيد الذي عند سؤال تلاميذه له كيف سنطعم هذا الجمع أجابهم: “أعطوهم أنتم ما يأكلون”، واعتقد أنك بعملك وفرادتك وما تحليت به من كاريسما نادرة، اعطيتنا قوتا روحيا وليتورجيا وفنيا ورهبانيا ما يكفي ليس فقط لنا نحن الحاضرين، بل لسنين عديدة، وكأنك تقوم اليوم أمام السيد الرب حاملا خمس وزنات ربحتها بالمتاجرة، تاركا إياها أمانة في عنق الرهبانية، وخزانا تنهل منه الكنيسة المارونية والجامعة لأجيال مقبلة”.
أضاف: “لم يغب عن بالك أبدا أن تشارك الآخرين بما عندك، ودائما بروح نكتة وظرف نادرين، فكان يطيب اللقاء معك وتحلو السهرات، ولكنها لا تخلو من تعليم أو توجيه أو إفادة، مع الشباب أو مع معاصريك، فترفدهم باللاهوت والليتورجيا والآثار والتاريخ، وتبثت فيهم الروح بسلاسة ودعة، كانت على خلفية الرياضات الروحية الكثيرة التي قمت بها وأدخلت من خلالها الكثيرين إلى علاقة وجودية وواقعية مع الرب والكنيسة. ولن ننسى، يا أبانا الحبيب، بعد صدور كتابك الأخير عن مار سمعان العمودي، القديس الذي شغلك ردحا طويلا من الزمن، كيف كنت تعمل على تحضير حفل لتوقيعه، كأنه كتابك الأول، وقد ناهزت أعمالك الـ25 (خمسة وعشرين) كتابا ومئات المقالات، ولكن غلبك المرض، ومنعك من تقديم ثمرة إضافية من ثمارك، فكن واثقا أنه سيكون منهلا لنا في حياتنا وعملنا، وسيبقى ملهما لنا لإخراج حياة قديسينا إلى الملأ لنستنير بهم ونرتوي من ذخائرهم. يودعك أخوك جان معنا اليوم، باسم العائلة، وقد بلغت مع إخوتك وأخواتك الثمانية الى المعاينة الإلهية، فيسترجع ذكريات البيت في وداعك، مع أولاد أخوتك وأخواتك، الذين وجدوا فيك دوما منارة لهم في حياتهم، وملهما في مشاريعهم”.
وتابع: “باسمي وباسم رهبنتنا الأنطونية نشكر الله الذي أعطانا إياك ونسأله ان يعوض على الرهبنة بدعوات مقدسة تكمل الرسالة التي تناهت إلينا. كما انني مع مجمع المدبرين واخوتي الرهبان وأنسبائك الأحباء، نشكر اخواتنا الراهبات الأنطونيات في دار الرحمة على عنايتهن بك في الفترة الأخيرة، وكذلك نشكر أخواتنا راهبات العائلة المقدسة المارونيات في المستشفى اللبناني الجعيتاوي، اللواتي وفرن لك العلاج اللازم خلال السنة المنصرمة. ونثمن عواطف المحبة والحضور الأخوي الذي أمنته جماعة ديرنا الأم مار اشعيا لراحلنا الحبيب في السنين الأخيرة. وقد أوكلني قدس الأباتي الياس عطاالله، رفيق السيامة مع أخينا الأب فرنسيس واكيم، أن أنقل إلى إخوتي الرهبان وإلى عائلة أخينا المرحوم يوحنا الحبيب، تعازيه الصادقة وتأكيد مشاركته الصلاة. كما نشكر جميع الذي أتوا من بعيد أو قريب ليشاركونا في صلاة المواكبة هذه”.
وختم رعيدي: “أخي الأب يوحنا الحبيب صادر، كثيرة هي مآثرك، والمآثر لا تكثر إلا بوفرة النعم، وعمل روحي لا يني ولا يتعب، ولا يتوقف لـحظة عن إضاءة كلمة الله في كل مكان وزمان. لذا، وأنت تدخل بفرح ديار الرب، كلنا إيمان بأن في انتظارك من سبقك من إخوتك الرهبان الأنطونيين، والقديسين وأجواق الملائكة يرنـمون ما كتبت وما أنشدت. أما هنا، فنحن مـحبوك وأسرتك وأخوتك الآباء، نلوح لك، لا بأيدينا بل بلوحاتك لتبقى عينك عليها وعلينا، فيما يدك في عرس السماء ترسم تاريخا آخر لفن أبدع بالروح والإنجيل وحول كلمة الله إلى ظلال نتفيأ تحت صورتها. وإننا لنناديك بصوتك المرتل لكي تصلي لنا من فوق، وتحنو صوب رهبانيتك الأنطونية كل صباح ومساء ليكثر أمثالك وعلى خطاك يسيرون بورع وتقوى ومحبة لا متناهية”.