ودَّعت الرهبانيَّة الأنطونيَّة المارونيَّة الأب يوسف شربل حاكم الذي تُوفيَّ يوم عيد الدنح، الأربعاء 6 كانون الثاني 2016. أُقيمت الصلاة الجنائزيَّة لراحة نفسه في كنيسة دير مار روكز – الدكوانة، مركز الرئاسة العامة للرهبانية عصرَ الخميس 7 الجاري. شاركَ بالجنَّاز إلى جانب الرئيس العام الأباتي داود رعيدي، صاحب السيادة المطران سمعان عطاالله، والمطران موسى الحاج، راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة، وحشدٌ كبيرٌ منَ الرهبان والكهنة والراهبات والأهل والأَصدقاء والمحبِّين من مختلف البلدات التي خدَمها الراحل خلالَ حياتِه.
وفى ختام مراسم الجنَّاز، تم التطواف بجثمان الأب حاكم محمولاً على أكتاف إخوته الرهبان والكهنة حول المذبح المقدس ثم شُيّع في موكبٍ مهيبٍ إلى مدافن الدير.
وكان الرهبان الأنطونيّون قد توافدوا منذ الصباح للصلاة ولإلقاء نظرة الوداع على جثمان أخيهم الراهب الأب يوسف شربل حاكم الذي سُجّي في الكنيسة، وتناوبَ الكهنة على الاحتفال بقداس المرافقة على مدارِ الساعة لراحة نفسه.
بعد تلاوة الإنجيل المقدس، ألقى الأباتي داود رعيدي عظةً قال فيها:
“بكثيرٍ من الرجاء المسيحيّ، نستودع أخانا الأب يوسف شربل حاكم قلبَ الآبِ السماوي، وقد سلّم روحه يوم عيد الغطاس، بعد حياة رهبانية حافلة بالعطاء والمحبّة والحضور، عاشها أبونا يوسف شربل بسلامٍ وبسمةٍ دائمة، حتى في أحلكِ ساعات حياته.
عرفتُه منذ خطواتي الأولى في الابتداء عام ١٩79، ويعرفه كثيرون منّا، إنساناً وجوديّاً يشارك الآخرين في حياته وحضوره ووجدانه، قبل أن يشاركَهُم في أمور الحياة الأخرى أو هُمومِها. فالأب يوسف يكون معك بكلّيته أو لا يكون، فلا تُضْطَّرُ لتستجوبَه أو لتعرفَ ماذا يعمل أو يدرسَ أو يفكّرَ، فهو كتاب مفتوح أمامك تقرأه ببساطة وسهولة، يحملك إلى عالم التكرّس من خلال العيش والاصغاء، ويملأُ حياتَك فرحاً، كأنه يحمّلك زاداً يغذّيك في الطريق.
منذ بدءِ حياتِه الرسوليةِ والكهنوتية، التفتَ إلى المعذّبين والمتروكين، وامتهن قضيّتهم في العمل من أجلهم ومعهم، كان جاهزاً لكل محتاج، ولقد عمل مع فريق ملتزم من المؤمنين في تأهيل مركز لمن هم أكثرَ حاجة. وعلى الرغم من عمله الدؤوب في تأسيس بيت سيدة الحنان، لم يكن يُفصحُ عن دورِه في هذا المشروع، جُلَّ ما كان يهمُّه أن يبقى مُتخفّياً غيرَ مذكور. حسبُهُ أن يكون كيوحنّا المعمدان يُشيرُ إلى الحَمَل، هكذا كان أبونا يوسف شربل يوجّه نحو الغاية من دون أن يصبح المحور. ولكنه كان سعيداً أنه أسهم في خَلقَ إطارٍ إنسانيّ وروحيّ لمن حرمتهم الحياةُ النهجَ العاديّ. فبقي دوماً قريباً جداً من البيت وبعيداً جداً عنه، كأنه بعدما أعطاه القدرة على الوقوف تركه يطير مع من آمن بالقضية وكرّس نفسه من أجلها.
أبونا يوسف، ومنذ فجر حياته في الرهبانية الأنطونية، كان أباً للجميع، مرشداً لكلّ من يطلب النصح والإرشاد، مصغياً لكلّ من يحتاج أن يُفرغَ نفسَه من الهموم، ويعودَ إلى بيتِه متهلّلاً. لم يكن الاب يوسف يعوّل على الدعم المالي، على الرغم من تجرّدِه عن مصروفه لدعم الآخرين، ولكنه كان يملأ من يزوره من رحمةِ الربِّ وحنانِه وبسمتِه. كان زوّارُه يخرجون من صومعتِه وصالونِه، كأنهم غنِموا غنيمةً كبرى، لم تكن سوى رأفةِ الربِّ يشاطرهم بها.
في مسيرة حياتِه ومسؤولياتِه في الرهبانية، مع النشء أو في الاديار، كان مثالَ الأب الصالح الذي يدعم الإخوة في كل خطواتِهم، يثبّتهم في دعوتهم، ويشجّعهم على عيش خبراتهم، من دون أن يحكم على أحدٍ منهم، لأنه كان مقتنعاً أنهم ابناءُ الحياة، أبناءُ الله، فسيقودُهم اللهُ إلى حيث يجب. لم يكن يعتبر أنه المربّي، بل المرافقُ، والأخُ، والزميلُ الذي يشاطرُ إخوتَه خبرتَه قبل أن يحكُمَ على خبرتِهم. كان الأبَ المحبَّ الذي يفرح لنموّ أبنائِه ويفخرُ بهم عندما يراهم يَكبرون. وعلى هذا المنوال عاش حياتَه الديريةَ والرعويّةَ في مختلِفِ مناقلاتِه الرهبانية، وخلال مسيرتِه الرسوليّة في كندا، وسوريا، كما في أديارنا مار سركيس وباخوس إهدن – زغرتا، ومار إدنا – النمورة، وديرنا الأم مار اشعيا.
أما الصلاةُ في حياته، فكانت حالةَ وجودٍ أمام اللهِ والإخوة، شَعَرَ نفْسَه، خصوصاً في أيام مرضه الطويل، أنه والمسيح واحدٌ، فصار غيرَ معنيٍّ بالشكليّات، لأنه صار يشارك وُجدَانه مع الله. فمن قرأ منّا كُتَيِّبَه “اختراق”، لشَعَرَ بسموّ النسك والاتحاد الذي يعبّر عنه في لقائِه بالله، إذ قاربَ الحلّاجَ في الكلامِ على ذاتِه التائقةِ إلى الذاتِ الإلهية، لكأنّ اللهَ يسكُنُه، أو يسكنُ هو في حضن الله. كان هذا نوعُ تأمّلِه، وصلاتِه، وقدّاسِه، واتّحادِه. حالةٌ واحدةٌ مع الله لا يَفْصلها الزمانُ ولا المكانُ، ولا يُحدِّدُها بالأوقاتِ والواجبات، بل في الحضورِ أمامَ اللهِ ومنه لكلِّ إنسان.
وما ميّز حياتَه بالأكثرِ الطاعةُ الرهبانيةُ المقدّسة، التي تشكّل لكثير منّا صعوباتٍ فكريةً ومنطقيّةً، في حين يَعْتَبِرُ الأبُ يوسف شربل أن الطاعةَ هي منطلقٌ وحالةٌ من الاتحادِ بالله من خلالِ المسؤول، فكان يتخلّى عن استقبالِ الضيوف، أي عمّا كان يعتبرُه مُتَنفَّساً له، إذا ما طلب منه الرئيس ذلك. إنّ أخانا يوسف هو أيقونة الطاعة، جبَلَ نفسَهُ بها، لأن طموحاتِ الارض لم تكنْ تَستهوِيه، وأدوارُ السلطةِ لم تَخْلُقْ له حافزاً، فكان هو هو، في كلّ حالاته، جاهزاً للتنقّل بين مكانٍ وآخر، يلبّي دعوةَ الله له كما يلبِّيها اليومَ في وقوفه أمام الله.
أما الفضيلةُ الأكثرُ التفاتاً في أخينا يوسف شربل، فكانت “الصمت”! صمتٌ ليس عن الكلام، بل عن التأفّفِ، والنقِّ، والمشاجراتِ، والمماحكات؛ صمتٌ في الأوجاع، صمتٌ في العزلة، وصمتٌ في المعاناة… كان وجهُهُ مشرقاً كأن عندَه كلَّ شيء، في حين أنه كان يعاني ويتألّم من كلّ شيء. صمتٌ تزيّنه البسمةُ الدائمةُ، يعاني فيبتسمُ، يتوجعُ فيبتسمُ، يعرف الخطرَ الذي يتعرّض له فيبتسمُ: “لا يماحك ولا يصيح، ولا يُسمعُ صوتُه في الشوارع” ولا في حنايا الدير، ولا في الاجتماعات، ولا فيما لم يتمكنْ من الحصولِ عليه. صمتٌ كالذي وصفَ به اشعيا النبيُّ عبدَ الله المتألمِ قائلاً: “ظُلِمَ وهوَ خاضِعٌ وما فتَحَ فمَهُ. كانَ كنَعجةٍ تُساقُ إلى الذَّبحِ، وكخروفٍ صامتٍ أمامَ الذينَ يَجزُّونَهُ لم يفتَحْ فمَهُ” (أش 53، 7). صمتٌ ناطقٌ تتجلى فيه صورةُ المعلِّمِ الإلهي، كأنه هو الذي يتكلّم فيه.
لم يتسنّ للأب يوسف شربل أن يعيشَ حياةً عادّية، ككلِ واحد منّا، بل باغته المرضُ باكراً، فبدأ منذ عام ١٩٩٢ غسيلَ الكلى، فكان وقتُهُ موزَّعاً بين الدير والمستشفى، لكنّه بوعيٍ وتسليمٍ إلهي منحه إيَّاه الربُ، صَعِدَ الأب يوسف شربل إلى الصليبِ قربَ المعلّم، ومن يومِها لم ينزلْ عنه. عرف أن مكَانه فوق، قربَ المسيح، ومن فوق، من على الصليبِ، عانى أخونا آلاماً مبرِّحة، تحمّلها بصمت، ولم يشأ أن يُخْبِرَ أحداً عن معاناته، فكنّا نكتشف أمراضَه بالصُّدْفَة؛ تخلّعَ جسدُهُ ببطء، لكنَّ وجهَهُ أشعّ ضياءً وسلاماً؛ خَسِرَ قُدُراتِه الجسديةَ، ولكنّه كان يَمُدُّنا بالقدرةِ الروحية. ولقد أخَذَ الكثيرَ من إخوتِنا الذين رافقوه صلابةً وصبراً وقبولاً للمشيئة الإلهية، من القيّم العام الأخ انطوان صليبا، إلى الأبوين ميشال الأسطا، وزكَّا القزي، وغيرهِم الكثيرينَ الذين ثابروا على مرافَقَتِه، لأنهم كانوا يجدون فيه ذخيرةً روحيةً ورهبانيةً حيةً تمدُّ الجماعةَ والرهبانيةَ برحمةِ الله.
من على الصليب، من حيثُ تسمَّرَ، كانت عينُه على الرهبانية، من فوق، أراد أن يحتلَّ في قلبِ الله مكاناً، فكان في قلبِ الجماعةِ الرهبانيةِ مثالاً! أمام الأب يوسف شربل، كانت تسقطُ التحدّيَّاتُ، ويختفي الحسدُ، ويُمْحَى الطمع. أمامه قلَّما تكلّم أحدٌ على مكانَتِه، وعن موقِعه وعن دورِه! لقد تعالى بألمه عن عذابِ الجسدِ والسعيِ وراءَ الباطلِ، لقد صار للجميع أخاً، لأنه كان لهم ومعهم ولم يُزَاحِمْهُم على دور.
لقد اقتبلَ لنفسهِ أن يكونَ مُحْرقةً طيبةَ الرائحةِ عَطَّرتِ الجماعة في دير مار روكز، وعطّر أريجَ الرهبانيةِ الأنطونية برائحةِ القداسة، ليس لأنه باتَ غيرَ قَويٍّ على الحركة، بل لأنه كان مدرسةً للفضيلة، علّم بِمَثَلِهِ ما يعجزُ الكثيرُ عن وعظه وكِرازَتِه بالكلامِ اللَّبِقِ.
نودّع اليومَ هذا الراهبَ البارّ، الذي اقتبل الاستشهادَ يوماً فيوماً مع سَيِّدِه على الصليبِ. نودّع جَسَدَهُ الذي ذابَ بيننا محبةً وبسمةً وصمتاً، نُوَدِّعُه، ولكنَّ طَيْفَهُ سيبقى في كلِ صرخةِ ألمٍ مكبوتةٍ، وفي كل معاناةٍ تشكّل طريقاً لاكتساب الفضيلة والقداسة. نودّع راهباً طَبَعَ الكثير منّا بمعنى الفرح، يومَ كان يُعاني الأمرّينِ من آلامهِ الجسدية. الأب يوسف شربل حاكم راهبٌ انطوني يَتركُنا اليومَ لينتقلَ إلى الحضرةِ الإلهية أمامَ عرشِ الحمل. إنّه شمعةٌ أضاءتْ في تاريخِ الرهبانيةِ الحديث، وذابت ببطءٍ لتُنِيرَ دربَ الكثيرين وتَحْمِلَهُم إلى حضنِ الآب.
أشكرُ جميع الذين اهتمّوا به، وكانوا قُرْبَهُ العَضَدَ والعون، في مستشفى أوتيل ديو، من أطبّاءَ، وممرضين، وعمَّال. كما أشكر بشكل خاص السيّد جوزف حلّاق الذي رافقه بمحبةٍ وتفانٍ في سنِّيْه الأخيرةِ. أشكر الآباءَ والإخوةَ الذين كانوا قُرْبَه، وتتلمذوا في مدرسةِ الصبرِ والصمتِ والفرح.
نودّع أخانا الأب حاكم بمناجاةٍ خَطَّها في كتابه الأخير “اختراق”:
“الأوجاعُ والآلام رصيد العبورِ المستمرِّ من الواقعِ الى الحقيقة”.
وكتب في مكانٍ آخرَ:
“عُد يا جسدي إلى التراب، أخلعُكَ كحذاءٍ، حرٌّ مستقلّ منك، حافٍ راحلٌ عنكَ، لافٍ الى راحتي في شخصٍ مُنيرٍ”.
باسم الرهبانية الأنطونية نتقدَّمُ بالتعازي المسيحيةِ المليئةِ بالرجاء من شقيقه ايلي وزوجته نجوى ومن شقيقتيه: ماري زوجة جوزف صليبا، وجانيت زوجة فايز صليبا ومن جميع الأصدقاء والأحبّة.
ألا فليرحمِ اللهُ نفسَهُ، وليجْعَلْه لنا شفيعاً في السماء، كما كان لنا دليلاً على الأرض، وليملأِ الربُّ رهبانيتَنا فضيلةً وسعياً مقدَّساً نحو الكمال، ويزيّنْها بدعواتٍ رهبانيةٍ صالحة، تشهدُ لمحبةِ الله وافتقادِه لشعبِه. المجد لثالوث الخلق والفداءِ والقداسة، الآب، والابن، والروح القدس، إلى الأبد.”