إضافةً إلى الرقابة على الكتب في المعارض وأشكال القمع من اعتقال الروائيين ونفيهم وإهدار دمهم، ما هي العوامل والأسباب الأخرى التي تدفع بالرواية فعلاً إلى أن تنحطّ؟ متى تنحطّ الرواية؟ وما الذي يهدّد وجودها الأصيل؟إبعاد الروائيين ونفيهم، الجوائز المالية، التديّن والتبشير، بروز وسائل التواصل الاجتماعي و تراجع المؤسسة النقدية، كلّها عوامل تشكّل خطراً على الرواية.
الإبعاد والنفي
تدفع الرقابة بعض الروائيين إلى مغادرة أوطانهم كما يحدث مع روائيين ايريتريين وسودانيبن وعراقيين وسوريين. فالوقوف في وجه السلطة الهشّة يمثل أيضاً طريقاً إلى المنافي والملاجئ الأوروبية، وهناك أيضاً يربي الغرب رواية عربية رديئة، حيث يصل الكاتب إلى الغرب برصيد نضالي يكون هو جوازه الوحيد للجوائز والترجمة وليس نصّه الإبداعي.
وهكذا يتورّط الآخر في تهديد الرواية العربية الراقية بالاحتفاء بالأعمال الروائية الرديئة ذات التوجّهات الأيديولوجية، ونحن هنا لا نتّهم كلّ أدب المنفيين بالرداءة إنما نقول إنّ عدداً لا بأس به منهم لا يرتقي ليكون محلّ ذلك الاحتفاء والتكريس وإنّ السبب الوحيد لذلك الحضور هو وضعه كلاجئ أو منفي.
والحق أنّ هذا الآخر قد لا ينتظر وصول المنفيين من الكتّاب الرديئين إليه بل يذهب إليهم أحياناً في بلدانهم ليترجمهم لغايات غير أدبية بل إنها إكزوتيكية أو استشراق مضاد وتجسّس على تلك المجتمعات المنطلقة الغامضة أو تشجيع لتيار ما.
المال والمال المحافظ
إلى جانب ما يرتكبه الكتّاب من جناية ضد الرواية بالدفع للناشرين لينشروا لهم أعمالهم تحت علامة أجناسية لا علاقة لها بمتن المنشورات، ودفعهم للمترجمين والمرتزقة من المترجمين الأجانب والدفع للناشرين الأجانب لنشر تلك الترجمات في نسخ قليلة لضرب المشهد الروائي العربي بهذه السيَر المزوَّرة لأشباه الروائيين، تنهض الجوائز الأدبية الخاصة بالرواية داءً داخلياً ذكياً يهدّد الجنس الروائي نفسه دون أن يدري، فانتشار الجوائز ذات المبالغ المالية الكبرى والمموَّلة من بلدان غير مؤمنة بحرّية التعبير وليست لها تقاليد أدبية في هذا الجنس الأدبي باعتباره حالة من التحرّر المطلق يمثل خطراً على الرواية، لأنّ واضعي الجوائز وضعوا معها شروطهم المتناقضة مع أدبيات الفن الروائي، فهذه الجوائز المحافظة أصبحت تحوّل وجهة الكتابة الروائية نحو قالب جديد مغربلة لغتها ومشاهدها ومضبوطة أقاصي جرأتها.
التديّن والتبشير: الرواية لا دين لها
ينحرف الخطاب الروائي نحو خدمة الدين أو الطائفة الدينية من خلال عدد من الكتابات التي تدّعي الروائية وهي الغارقة في خطاب أحادي مضاد للجنس الروائي برمّته. خطاب خادم للفكر الديني في شموليته ضارب لفكرة التعايش والتحاور والتعدّد والنسبية التي نشأت الرواية فيها ومن أجلها. فالكتاب الديني خطاب شمولي يقيني أزلي.
إنّ هذا الخطاب الذي جعل من الرواية العربية خطاباً تبشيرياً رديئاً نجح في التغلغل في عقول الشباب عبر «جماعات القراءة» التي تقودها أياد خفية وراء أولئك الشباب البريء الحالم. أياد قذرة استطاعت أن تجنّد المراهقين من خلال الخطاب الروائي الملغوم تحت شعارات كبرى قومية كمحاربة الصهيونية والدفاع عن الاسلام.
الاستعجال ووسائل التواصل الإجتماعي
يمثّل استعجال الكتّاب في دخول عالم الرواية تحت إغراءات الجوائز أحد أهم أسباب تشوّه المشهد الروائي العربي بنصوص كثيرة رديئة، والسبب الثاني تسبّبت فيه مواقع التواصل الاجتماعي التي شكلت سوقاً لبيع الأوهام، وأوّل مَن تخدعه هو الكاتب الذي يظهر فيها مرة كمبدع بسبب تلك الأكداس من «اللايكات» التي تعلن اعجابها بتلك النصوص المنشورة، وهو ما يجعل هؤلاء الفايسبوكيين والتويتريين يتسرّعون في تجميع تلك الكتابات ويطلقون عليها روايات.
والحق أنها ظاهرة عالمية وليست عربية ما دفع بالروائي الايطالي امبرتو ايكو إلى التصدي لها قبل وفاته فوصف وسائل التواصل الاجتماعي بأنها «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممَّن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأيّ ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل مَن يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».
وسخر منها الروائي الأميركي جوناثان فرنزان، فقال: «حين أتأمّل وسائل التواصل الاجتماعي أشعر أنّ العالم الذي كان ناضجاً تحوّل فجأة الى كافيتريا مدرسية فيها صبية من طلبة الصف الثاني إعدادي، وحين أتأمّل صفحة الفيسبوك أشعر أنني إزاء صالة قمار في لاس فيغاس».
تراجع المؤسسة النقدية
يبدو أنّ المؤسسة النقدية، في غياب الدوريات النقدية والأدبية والملاحق الثقافية في الصحف العربية، أخذت تنقرض شيئاً فشيئاً وتترك مكانها لخطابات أخرى انطباعية وسطحية، مع استثناءات قليلة، تغدق على النصوص بالثناء أو باللعنات تُسمى تجاوزاً «مراجعات».
هذه المراجعات التي تمتلئ بها الصحف وخصوصاً منها الصحف والمواقع التي تدفع لكتّابها، تتحوّل بسرعة إلى مؤسسة موازية للمؤسسة النقدية وتحلّ محلها كوريث شرعي.
خطر هذه المراجعات أنها ماكينة إنتاج لذلك فهي خالية من فعل الإبداع النقدي بل هي متلبّسة به في ما يمكن أن نسمّيه «انتحال صفة» لذلك تتجرّأ على الحكم على النص أو له. هذه الأحكام هي التي توطّن الرواية في خانة من الخانات وتُعلي من شأنها أو تسقطها وهي التي تعبّد لها طريق الجوائز أو طريق النسيان.
إنّ الرواية قد تكون نجت من الموت وكذّبت المنظّرين لموتها وتلاشيها الطبيعي كأنواع أخرى سبقتها، لكنها قد لا تنجو من الإغتيال من خلال محاصرتها بالرقابة والقمع أو عبر الاحتفاء المُبالغ به وتحويلها إلى شأن كرنفالي استعراضي أو بتحويل وجهتها لخدمة أغراض أخرى غير روائية سياسية كانت أو دينية.
كمال الرياحي
الجمهورية