“مغفرة الله هي محبّة حقيقيّة تحثُّ الإنسان ليصبح أفضل ما بإمكانه أن يصير” هذا ما تمحور حوله التأمّل السابع للأب إرميس رونكي عصر أمس الأربعاء في الرياضة الروحية التي يقيمها بمشاركة الأب الأقدس وأعضاء الـ “كوريا” الرومانية في بلدة أريتشا القريبة من روما.
استهل الأب إرميس رونكي تأمله انطلاقًا من نص من الإنجيلي يوحنا الذي يقدّم لنا يسوع يعفو عن الزانية وقال يذكّرنا هذا النص أن المُتَّهِمين والمرائين ينكرون الله ورحمته؛ إنَّ الذي يحب أن يحكم على الآخرين ويفرح بأخطائهم يعتقد أنه ينقذ الحقيقة برجم الخاطئين، ولكن هكذا تولد الحروب وتُخلق النزاعات بين الأمم وبين المؤسسات الكنسية أيضًا حيث تصبح القوانين والشرائع حجارًا لرجم الآخرين.
تابع الأب إرميس رونكي يقول لقد تم تجاهل نص الزانية لعصور من قبل الجماعات المسيحية لأنه كان يسبب عثرة لرحمة الله. لا يخبرنا الإنجيل عن اسم المرأة الزانية لأنها تمثلنا جميعًا، وتسحقها سلطة الموت التي تعبّر عن ظلم الرجال للنساء. لقد كان الفرّيسيّون يضعون الخطيئة في محور العلاقة مع الله لكن الكتاب المقدّس ليس صنما أو شعارًا وإنما يتطلّب منا أن نوظف ذكاءنا وقلبنا. إن السلطة التي لا تتردّد في استعمال الحياة البشريّة والدين تضع الإنسان ضدّ الله وهذه هي مأساة التطرّف الديني.
أضاف الأب إرميس رونكي يقول إن الرب لا يحتمل المنافقين والمرائين، ذوي الأقنعة والقلوب المزدوجة كما لا يحتمل الذين يتهمون الآخرين ويحاكمونهم؛ لأن جوهر المسيحية هو العناق بين الله والإنسان، وبالتالي فالمرض الذي يخافه يسوع ويحاربه هو قلب المرائين المتحجّر والقاسي: إن انتهاك حياة شخص آخر، مذنبًا كان أم بريئًا، بالحجارة أو بالسلطة هو رفض لله الذي يقيم في هؤلاء الأشخاص.
تابع الأب إرميس رونكي يقول لقد ارتدَّ حكم الفريسيين المرائين على المرأة الزانية عليهم: إذ ما من أحد قد يرجم نفسه بحجر. يكتب القديس أمبروسيوس في هذا السياق حيث تكون الرحمة يكون الله وأما حيث تكون القساوة والتصلب ربما تجدون خدام الله ولكنكم لن تجدوا الله. إن يسوع قد وقف أمام المرأة الزانية كمن يقف أمام شخص مُنتَظر ومهمٍّ، وقف ليكون أقرب إليها ويكلّمها، لا سيما وأن ما من أحد قد تكلّم معها في السابق لأن حياتها وتاريخها لم يهمّا أحدًا، أما يسوع فقد فهم جوهر هذه النفس.
أضاف الأب إرميس رونكي يقول إن الهشاشة تعلمنا درب الإنسانية، والاهتمام بالضعفاء والعناية بالأخيرين وذوي الحاجات الخاصة هي المؤشرات التي تدل على حضارة شعب معيّن وليست تصرفات المقتدرين والأقوياء. فيسوع لا يهمّه التأسّف والاعتذار وإنما صدق القلب، ومغفرته هي بلا شروط وأحكام، لأنه يضع نفسه مكان جميع الخطأة والذي يُحاكَمون ويكسر السلسلة التي تقدّم الله كديّان يحاكم ويدين بالعنف.
تابع الأب إرميس رونكي يقول إن قلب هذا النص ليس الخطيئة التي ينبغي أن تُدان أو أن تُغفر وإنما الله الذي هو أكبر من قلبنا والذي لا يجعل الخطيئة تافهة وإنما يساعد الإنسان لينطلق مجدّدًا من النقطة التي كان قد وصل إليها، فيفتح له دروبًا جديدة ويعيده إلى الدرب الصحيح. فيسوع بتصرّفه هذا يقوم بثورة جذريّة ويقلب الفكرة التقليدية لإله يدين ويجازي إلى إله عريان ومصلوب يسامح ويغفر؛ من الله الضابط الكل إلى الله الذي يحب الكل؛ من توجيه أصبع الاتهام إلى الأصبع الذي يكتب على القلب المتحجر “أنا أحبّك”. “إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة” هذه الكلمات تكفي لتبديل الحياة، فلا يهمّ ما مضى لأن المستقبل هو الأهم، والخير الذي يمكنني أن أفعله غدًا هو أهمّ من الشر الذي فعلته في الأمس. فالله يغفر لا كمن ينسى وإنما كمن يحرّر، ومغفرته تعيد الإنسان إلى مسيرته.
وختم الأب إرميس رونكي تأمّله السابع بالقول هناك العديد من الأشخاص الذين يعيشون يسحقهم الشعور بالذنب بسبب أخطاء الماضي، لكن يسوع يفتح أبواب سجوننا ويحررنا لأنه يعرف أن الإنسان لا يساوي خطيئته، وبأن الله لا يهمّه ماضينا لأنه إله المستقبل. إن كلمات يسوع وتصرفاته تزيل الأحكام المسبّقة، لأنه برحمته يقودنا أبعد من الأحكام الأخلاقية، فهو يطلب من العين التي ترى الخطيئة في الآخر أن ترى النور فيه.
أما في تأمله الثامن صباح الخميس توقّف الأب إرميس رونكي عند إنجيل القيامة وبالتحديد عند سؤال يسوع لمريم المجدليّة: “لِماذا تَبْكينَ، أَيَّتُها المَرأَة، وعَمَّن تَبحَثين؟” ليشرح بعدها تصرف الله إزاء ألم الإنسان. فيسوع القائم من الموت هو إله الحياة ويهتم بدموع المجدليّة؛ على الصليب اهتمّ يسوع بألم اللص وفي أول ساعات الصباح يوم القيامة يهتم بدموع محبة مريم ولماذا؟ هذا أسلوب يسوع، رجل اللقاء، لا يتوقّف أبدًا عند خطيئة الإنسان وإنما عند ألمه وحاجته.
تابع الأب إرميس رونكي يقول بالنظر إلى تصرفات يسوع نرى أنها تصرفات السامري الصالح يرى يتوقف ويلمس، أفعال لا ينبغي علينا أن ننساها أبدًا، ففي مشاهد عديدة من الإنجيل يرى يسوع الألم البشري ويشعر بالشفقة، وبالتالي فالشفقة الحقيقيّة ليست شعورًا وحسب وإنما هي ما يدفع السامري الصالح لكي لا يعبُر ويتابع طريقه كالكاهن واللاوي، وكذلك فالفرق الحقيقي ليس بين الذي يؤمن والذي لا يؤمن وإنما بين الذي يتوقّف أو لا يتوقف عند جراح الآخرين وألمهم.
وختم الأب إرميس رونكي تأمّله الثامن بالقول في كل مرّة يشعر يسوع فيها بالشفقة يلمس، لمس الأبرص وشفاه ولمس ابن أرملة نائين وأقامه من الموت. فالنظر بدون القلب يسبب الظلم، ويحوّل الضحايا إلى مذنبين. أما إن مسحتُ دمعة ربما لن أغير العالم وهذا أمر صحيح ولكنني أكون قد وضعت في ذهني فكرة أن الجوع ليس أمرًا لا يمكن التغلب عليه، وبأن لدموع الآخرين حقّ على كل فرد منا، وبأنني لا أترك معوزًا على الهامش وبأن المشاركة هي أكبر تعبير عن الإنسانيّة، لأن الرحمة هي أكثر ما هو جوهري لحياة الإنسان.
إذاعة الفاتيكان