لمناسبة اعلان البابا فرنسيس سنة 2016، ” سنة الرّحمة الالهيّة”، وبرعاية وحضور رئيس عام الرّهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة الأباتي داوود رعيدي، نظمّت كليّة العلوم اللاهوتيّة والدّراسات الرّعائية في الجامعة الأنطونيّة في الحرم الرئيس في الحدت-بعبدا ندوة بعنوان ” الرّحمة: نهج ضعف أم قوّة؟” بمشاركة وحضور المطران بولس روحانا، والدكتور وجيه قانصوه، الدكتور بول دواليبي، رئيس الجامعة الأنطونيّة الأب جرمانوس جرمانوس وحشد من الأكاديميين والمهتمين.
الندوة التي أدارتها الدكتورة نايلة أبي نادر طرحت جملة أسئلة منها “ما هو تصوّر كلّ من الباحثين المشاركين للرّحمة، وكيفيّة عيشها، اليوم؟ ” كيف يحدّد كلّ من الحياة المسيحيّة والدّين الاسلاميّ الرّحمة؟ وما هي منزلة الرّحمة في التعاليم الكنسيّة والنّصوص الفقهيّة والصّوفيّة؟ وما هي منزلة الرّحمة في ما تنتجه علوم الانسان في الحقبة المعاصرة؟
الأب شربل أبي خليل
النشيد الوطني افتتاحًا ثمّ استهلّ اللقاء بكلمة ترحيب لعميد كليّة العلوم اللاهوتيّة والدّراسات الرّعائية الأب شربل أبي خليل الذّي اعتبر أن الرّحمة، هذه القيمة الانسانيّة التي نادت بها الكنيسة والأديان، وتحدّثت عنها الفلسفات الاخلاقيّة، وتغنّى بها الشّعراء على مرّ العصور، بقيت الى يومنا هذا، هدفا مرتجى، أو حلما يدغدغ خيال المتعبين والمرذولين والمعنّفين باسم السّياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع الحضري أو القانون أو حتى باسم الدّين نفسه.
نايلة أبي نادر
بعدها تحدّثت الدكتورة نايلة أبي نادر فقالت ” نلتقي والهمّ المعرفي مضرّج بالقلق على الهويّة والخوف على المصير وسط تزعزع سلّم القيم، وتراجع نسبة الحسّ الانسانيّ لدى الآدميين” متسائلة عمّا اذا كان الانسان المعاصر ما زال يحتفظ بصورة طبق الأصل عن هويته، تذكره بما كان يجب عليه أن يكون. أبي نادر التي شرحت بشكل مسهب الأصول اللغوية اللاتينية والعربية لكلمة الرّحمة التي وردت في القرآن في 268 موضع سألت أيضاً: ” ما معنى أن نبحث في الرحمة وسط ما نعيشه من احداث طبعت ذاكرتنا بأبشع الصور ومزّقت وعينا فرمت به في مهبّ اللامبالاة. هل فعلا الانسان ما زال انساناً؟ وما الذّي يميّز سلوكاته المفرطة بالوحشية عن باقي المخلوقات التي تسكن الغابات تبث عن قوتها اليومي وسط ظروف طبيعية صعبة؟”
المطران بولس روحانا
بدوره، تكلّم المطران بولس روحانا على ” البعد اللاهوتيّ الرّعويّ ليوبيل سنة الرّحمة” فلفت الى الطابع الملّح والاستثنائي لدعوة البابا الى أن نكون شهود رحمة. وتطرّق تباعا” الى الأبعاد الروحانيّة، والانتروبولوجيّة والكنسية والمسيحانيّة والنهيوية للرحمة مشيراً الى أن هذه الأبعاد تشكّل وحدة متكاملة وكلّ تجزئة لها تعطّل الرؤية الشموليّة. في مداخلته، تناول روحانا مبدأ التوبة بين البرارة والقساوة كما تحدّث عن نقيضين: أزليّة الخطيئة وأبدية الرّحمة اضافة الى البعدين الأفقي والعامودي للرّحمة وتعاون الانسان مع الله وكيفية اتنتشال الرّحمة للخاطئ من خطيئته موضحا في هذا السياق أن الوصيّة-الشعار” كونوا رحماء كما أن أباكم السماويّ رحيم” التي أعطاها يسوع لتلاميذه على الجبل تقيم على الصعيد اللاهوتي تعاونا كيانياً وان غير متوزان بين “الجابل والجبلة” اذ لا يمكن للانسان أن يسعى الى الكمال ما لم يرتبط كيانيا بأبيه السماوي.
وجيه قانصوه
من جهته، اعتبر الدكتور وجيه قانصوه أن الاعلان البابوي لسنة الرحمة جاء في لحظة حرجة وهو أشبه ببيان احتجاجي وباعلان طوارئ عن أزمة، ضمنيّ وغير مصرّح به، مفعم بالقلق والخوف والألم اذ أن جميع من في الأرض يقلّهم مركب يتسارع الى الهاوية وأن شيئا ما في داخلنا يرحل عن حياتنا كلّ يوم لذا كان لا بدّ من السؤال على أي أرض نقف، في أي عالم نعيش وأي وجهة ونمط نختار وماذا لدى الحقيقة أن تقدّم لنا لتنتشلنا من الهاوية. في معرض قراءته لهذا الاعلان، سأل قانصوه عن مدى امكانية الرحمة على احداث فرق في عالمنا كما توّقف عند قدرة البابا فرنسيس الذّي وصفه ﺑ” رسول الرحمة” في زمننا المعاصر على تحويل النصّ بأفقه التاريخيّ القديم الى اشكالات وتحدّيات معيوشة فحذّر من الوقوع في فخّ اللامبالاة التي تمنع أعيننا عن رؤية البؤس في العالم وركّز على مبدأ الرحمة والعدل مذّكرا أن الرحمة هي قيمة كونيّة مشتركة ونقطة تلاقي مع الديانات الأخرى أبعد من أن تمتلك أو تنحصر بجماعة معيّنة.
بول دواليبي
تحت عنوان “ارحم ذاتك”، كانت أيضاً مداخلة للدكتور بول دواليبي الذّي قارب مسألة الرّحمة من وجهة نظر العلاج النفسي فانطلق من لحظة “فاجعة الولادة” Traumatisme de la naissance)) وهي بحسب ما قال، “لحظة عنف وتمزيق للمولود تفصله عن كل ما ليس هو وتقذفه الى الحياة فيتغرّب عن ذاته ويسعى الى تأمين حاجاته ومصالحه عبر “الآخر” ” ليعتبر بعدها أن الانسان لا يمكن له أن يحبّ ويرحم ما لم يتوّقف عن تعنيف نفسه وعن الهروب ورفض حقيقة ذاته والاعتراف بفقره وهشاشته وضعفه وعريه الكياني وقبول هويته الأصليّة لافتاً الى أن ” التصالح مع الذات هي اللحظة التي تبدأ فيها الرحمة”.
في الختام، كان نخب في المناسبة.