الغيرة الأزليّة بين النساء
بدايات أجاتا كريستي كانت مع الكتب الرومانسية، عندما نشرتها تحت اسم مستعار هو «ماري ويستماكوت»، كما كتبت الشعر والنثر، والروايات التراجيديا، وعزفت الموسيقى، وعشقت الترحال وألوان الطبيعة، وتأثّرت بالإسلام، وكتبت عن بغداد واصفةً شوراعها وأزقّتها الضيّقة، وسوق الصفافير الشهير، والضوضاء الصاخبة، والهدوء الغافل عن الزمن. فلا عجب أن تكون مشروع شاعرة لو أُتيح لها الوقت الذي أغدقته على رواياتها البوليسية المدهشة.
في روايتها «السرو الحزين» يبرز عنصر الغيرة الأزلي بين النساء على رجل وسيم يدعى «رودي»، بين «ألينور» ابنة عمه التي ورثت الملايين عن عمتها التي تموت فيما بعد في الرواية بعد صراع مع المرض، «وماري» ابنة البستاني الفقير المعدم، التي تولّت عمة ألينور تعليمها ورعايتها ليتّضح فيما بعد أنّها ابنة تلك العمة العجوز، أخفتها عن الأعين بعد علاقة حب لم تدم مع شخصٍ متزوّج، مات منذ زمنٍ طويل.
تُقتل ماري، وتحوم الشبهات كلها حول ألينور التي تقلّبت كالجمر في موقد الغيرة والسخط، بعد أن صارحها رودي بعشقه لماري.
الواقعة تؤكّد بأنَّ ألينور هي التي خطّطت ونفّذت، وتهاوت في درك الجريمة رغم طيبتها وكرمها وتسامحها مع الآخرين. وحده السرو الحزين الذي أنشد خارجاً في حدائق الروح، دفع بوارو المحقق الشهير في قصص أجاتا أن يقتحم عالم المتّهمة الحزين، ويثبت بالأدلّة الدامغة بأنّها بريئة من كلّ ما نُسب إليها، مقدّماً للمحكمة المجرم الحقيقي، وهي الممرّضة التي كانت تسهر على رعاية العمّة العجوز، والتي ارتكبت جريمتها بدافع الطمع عندما اكتشفت بأنّ ماري هي إبنة العمّة ومن صلبها، وقد أخفت حقيقة أنّها هي نفسها خالة ماري حتى تقتلها ومن ثمّ تثبت نسبها وترثها، ومقنعاً نفسه بأنّ الأسى الذي أبصره في عيني المتهمة لم يكن مزيّفاً ولا نابعاً من ندم، بل ينبع من عالم العشق الذي هبّ في أعاصير الظلام، طاغياً على قلبٍ عشق مَن لم يعشقه، وقدّس من لم يلتفت إليه.
الموتُ حظ
تغريدات ذلك السرو الذي غزا الرواية لم تكن سطحية ولا فضولية، وقد استشهدت الكاتبة بكلمات وليم شكسبير عندما قال:
«تعالَ وأسرعْ أيّها الموت، تعالَ وأسرعْ، ولُفَّني بأغصان السّروِ الحزين.
جهّزوا كفني الأبيض، ورصّعوه بأعواد الطقسوس، واذهبي بعيداً أيتها الأنفاس، بعيداً اذهبي.
إنّه حظي من الموت، ولن يشاركني فيه أحد»
الموتُ لم يكن فقط للضحيّة التي قُتلت، لقد لفّ القلوب المهشّمة المهمّشة في الحب، فجرف معه قلب المتهمة، وحرّض كيان رودي، الرجل الذي تخلّى عن مَن تحبه ليلحق بمَن يحب، دون أن ينصت لصدى قلبها المحطّم الذي يئنّ وجعاً.وبين الثلاثة حلّق السرو حاضناً جروحاً لن تلتئم بسهولة.
الموتُ حظ، هو ما كتبه شكسبير، وعبّرت عنه أجاتا كريستي، لأنّ الحظ يلازم الموت كما الحياة، لا مفرّ منه ولا مهرب، وهذا دليلٌ أنّ فلسفة الموت لم تغب فقط عن الشعراء والروائيين والمسرحيين، بل عن كتّاب الجريمة الذين عادة ما يتّكئون على صلب الحقيقة والواقع المجرّد من الخيال.
لماذا يقطفنا الموتُ وتدهسنا الحياة؟ هذا هو السؤال الفلسفي الذي حاولت الكاتبة أن تعبّر عنه، فنفذ إلى أعماق الرواية شعراً حارّاً يكاد يطحن الأحداث بلظاه المستعرة.
السرد، وعنصر التشويق، والإثارة النفسيّة الأخّاذة، لطالما ميّزت أسلوب الكاتبة وحلّقت بها إلى سماءات عالية خافقة بالحدث، ولكن في رواية السرو الحزين، غرّد الشعر سيّداً للموقف، جميلاً مُبهراً، منساباً برونق الحياة، ونطفة الإحساس.