د. ايلي مخول
يرى البروفسور ريشار بيليفو، العالم في الكيمياء الحيوية، مدير مختبر الطّب الجزيئي في مستشفى سانت جوستين في مونتريال، كيبيك، ومؤلف العديد من الكتب عن الطعام، أن السكّر والملح والدهون ليست هي المشكلة لصحتنا، إنّما الكمّية الزائدة التي تدخل في صناعة الموادّ الغذائية. المقابلة التالية أجرتها معه مؤخّرًا صحيفة Le Figaroالفرنسية اليومية.
لو فيغارو: يبدو أن السكّر والملح والدهون قد أصبحت أعداء نظامنا الغذائي. ولكن هل يمكننا الاستغناء عنها حقًا؟
د. ريشار بيليفو: لا يمكننا ولا يجب الإستغناء عن السكّرأوالدّهون أوالملح. خذ االدّماغ على سبيل كمثال: لكي تعمل الخلايا العصبية بشكل صحيح يجب أن تستهلك كل يوم حوالي 120 غرام من الغلوكوز، أي ما يقرب من نصف الكربوهيدرات التي تتناولها. لذا فإن السكّر والملح والدهون هي قطعًا أساسيّة للحياة، ويجب أن نتوخّى الحذر قبل إصدار حكم مبرم بإدانتها. وما يثيرالإشكال هو استخدامها المفرِط من قبل صناعة الأغذية الزراعية. ليست كمّية الزبدة المستخدمة في تحمير الخضروات أو الملح المضاف إلى الحساء ولا مكعّب السكّر في فنجان القهوة هي المشكلة. إن ما دفع العلماء المهتمين بالتغذية إلى التساؤل عن تأثيرالسكّر والملح والدهون على الصحّة هو الزيادة المذهلة في السمنة، السكّري، أمراض الكبد أو بعض أنواع السرطان التي تلاحَظ لدى السكان الذين يستهلكون بانتظام تلك الأطعمة الصناعية.
هل سنكون في صحة أفضل بلا ملح وسكّر أو دهون؟
ما من شكّ في أننا كنا في صحّة أفضل قبل وصول كميّات كبيرة من المنتجات الصناعية المشبعة بالسكّر والملح والدهون. انظر إلى ما يحدث في الصين: في حين أن مرض السكّري من النوع 2 لم يكن موجودًا تقريبًا في العام 1980، فإنه يصيب الآن 10٪ من الشعب الصيني. كما تشير التقديرات إلى أن 22 مليون حالة سنوية جديدة من السرطان ستؤثر على البلدان النامية في العام 2030: أي مرتين أكثر من اليوم، وهي نتيجة مباشرة لاضطرابات التمثيل الغذائي والالتهابات المزمنة الناجمة عن زيادة الوزن. هذه ليست أمثلة منعزلة: فجميع البلدان، دون استثناء، التي تخلّت عن نظامها الغذائي التقليدي لصالح المنتجات المصنّعة تواجه زيادة مثيرة للقلق في السمنة والسكّري وغيرها من الأمراض المتؤتّية من زيادة الوزن. ليس السكّر أو الدهون أو الملح بحدّ ذاتها هي المسؤولة عن هذه الكارثة، بل الاستخدام المفرط لهذه العناصر من قبل صناعة الموادّ الغذائية لإنتاج أطعمة بنوعيّة رديئة وجِدّ مكثّفة لناحية السعرات الحرارية.
كيف يمكن تشجيع صناعة الأغذية على تقليل مقادير الملح والسكر والدهون في منتجاتها؟
قد تكون الطريقة الصحيحة الوحيدة لتقليل محتوى السكّر والملح والدهون في المنتجات الصناعية هي اعتماد تشريعات تتطلب الإشارة الى الماركة التجارية بوضوح. في فنلندا، على سبيل المثال، يجب أن تحمل علامة الغذاء جليًّا عبارة “نسبة عالية من الملح”، في حال تمّ تجاوز معدّل الملح عتبة معينة محدّدة مسبقًا. فإذا تمّ دمج هذا النوع من التدخّلات الحكومية مع وعي المستهلك لمخاطر الإسراف بالملح أو السكّر أو الدهون، يمكن عندها توقّع تحسّن ملموس في صحّة السكان . ممّا يدلّ على أن الفنلنديّين، بعد فرض التشريعات الخاصة بالعلامة التجاريّة، استطاعوا التقليل من استهلاك الملح بنسبة 40 ٪، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض في ضغط الدم وبالتالي هبوط معدّل الوفيات الناجمة عن النوبات القلبية والسكتات الدماغية بنسبة 70 ٪ .
كيف يعتاد المستهلكون على اختصار الملح والسكّر والدّهون في طعامهم؟
يجب أن نبدأ باكرًا جدا! ذلك أن هذه الأذواق غالبًا ما تُكتسب في مرحلة الطفولة ويمكن أن تؤثّر في العادات الغذائيّة مدى الحياة. على سبيل المثال، تشير الدراسات الحديثة في الولايات المتحدة إلى أن الطفل الذي يتناول المشروبات الغازية من حين لآخر في عامه الأول من العمر سيشربها بانتظام في وقت لاحق وسيتضاعف خطر زيادة وزنه في سنّ السّادسة. لا عجب في ذلك، لأن العديد من الدراسات قد أثبتت بوضوح أن السكّر والدُّهن ينشّطان الدوائرالدّماغيّة للتعويض ويمكنهما التسبّب بالتعوّد وحتى بالإدمان في بعض الحالات. بالمقابل، فإن الخبر السّارّ هو أن بالإمكان أيضًا التأثير إيجابًا على أولويّات التذوّق تلك، وذلك بتعويد الأطفال على الفواكه والخضروات في سنّ مبكرة.
صدرت أخيرًا عدّة كتب في فرنسا، تدعو إلى اتّباع نظام غذائي خالٍ من السكّر. هل ينبغي حظرالسكّر من أطباقنا؟
ينبغي تجنّب كلّ نظام غذائي يقوم على التخلّص بالجملة من مادّة معينة، سواء تعلّق الأمر بالسكّر أو الدُّهن أو الملح. فنحن بصدد رؤية اختزالية للتغذية، حيث تصبح الموادّ المغذّية أهمّ من الطعام الذي يضمّها. مثلاً: يحتوي نصف حبّة المنغا على 15 غرام من سكّر الثمار، أي ما يعادل الكمّية الموجودة في 250 ملّيلتر من الصّودا. فإذا كنت تتّبع نظامًا غذائيًا خاليًا من السكّر، عليك منطقيًّا شطب المَنغا من نظامك الغذائي، تمامًا مثل الإجاص والعنب والحمضيات، إلخ. أن هذا بطبيعة الحال هُراء في هُراء. فالفواكه تحتوي أيضًا على البوليفينول والألياف والفيتامينات والمعادن، التي تلعب جميعها أدوارًا مهمة في الحفاظ على صحّة جيدة. وتُظهرآلاف الدراسات بجلاء أن استهلاك الفواكه يرتبط بانخفاض كبير في خطر الإصابة بأمراض القلب والسكّري والعديد من أنواع السرطان.
ما هو معدّل السكّر المثالي في اليوم؟
بادئ ذي بدء، يجب أن نذكّر بأن الأطعمة الحُلوة المذاق ليست وحدها التي تحتوي على السكّر. فالألياف الغذائية والنشويات هي عبارة عن بوليمرات من السكّر، ويمكن أن يؤدي تفكّكها أو تحلّلها في الأمعاء إلى إطلاق ما يكفي من الغلوكوز لتلبية احتياجات الجسم من الطاقة. بشكل عام، يُقترح أن يكون حوالي 50٪ من استهلاك الطاقة على شكل كربوهيدرات، ما يعادل حوالي 250 غرام من الأطعمة مثل الخضروات أو الحبوب أو البقوليّات. فيما يتعلق بالسكاكر البسيطة (سريعة الذوبان) المضافة إلى الأغذية، تقترح منظمّة الصحّة العالمية حصر استهلاكها بمعدّل 10٪ من حصّة الطاقة اليوميّة. بالنسبة لشخص بالغ يتناول 2000 سعرة حراريّة يوميًا، فإن هذا يتوافق مع 200 وحدة حراريّة أي 50 غرام أو 12 ملعقة من السكر المضاف. لاحظ أن هذا لا يشمل السكاكرالسريعة الموجودة بشكل طبيعي في الفواكه أو الحليب، والتي لا توجد توصية بشأنها حاليًا.
الملح هو أيضا في خط النار، ويشار إليه بأنه وراء ارتفاع ضغط الدم. ولكن هل يتسبّب أيضًا في أمراض أخرى؟
لاحظت بحوث عدّة في علم الأوبئة أن تناول الملح بنسبة مرتفعة يرتبط بزيادة ملحوظة لخطر الإصابة بسرطان المعدة. فعلى سبيل المثال يستهلك العديد من سكّان البلدان الآسيوية، في المتوسط، ضعف كمّية الملح التي يتناولها الغربيون، ويصابون بشدة بهذا المرض (لا يزال سرطان المعدة حتى اليوم يشكّل أحد الأورام الرئيسة التي تضرب سكّان اليابان وكوريا). ومن المثير للاهتمام أيضًا ملاحظة أن الدول التي لعب فيها الملح دورًا تاريخيًا مهمًّا – سواء كانت مالي التي تحيط بقوافل الملح الأفريقية، أو تشيلي الغنيّة بمناجم الملح أو البرتغال حيث يشكّل سمك المورة المملّح جزءًا من عاداتها الغذائيّة منذ زمن بعيد – جميعها تحتوي على نظام غذائي غني بالملح يرتبط بارتفاع معدل الإصابة بسرطان المعدة.
ما عساها تكون الجرعة المناسبة من الملح في اليوم؟
بشكل عام، توصي هيئات الصحّة العامة باستهلاك 3 الى 6 غرامات من الملح في اليوم. معظم الناس يتناولون منه أكثر من ذلك بكثير، أي ما يقارب 10 غرامات من الملح (4 غرامات من الصوديوم). وتشير التقديرات إلى أن أكثر من مليوني شخص يموتون قبل الأوان بسبب أمراض القلب المرتبطة مباشرة باستهلاك الصوديوم الزائد. لا بدّ من القول أن الملح الذي نضيفه إلى طعامنا ليس هو المشكلة: فأكثر من 75 ٪ من الملح في أطعمتنا يأتي من المنتجات الغذائية المصنّعة والتي يتمّ استهلاكها إضطراريًّا. بالنسبة للصناعة الغذائية ليس الملح سوى طريقة لإضفاء بعض الطَّعم على المنتجات ذات القيمة الذّوقيّة المنخفضة. إذًا إن الطريقة الوحيدة الفعّالة لتقليل نسبة الملح هي التخفيف من استهلاك تلك المنتجات الجاهزة وتهيئة الطعام ذاتيًّا قدرالإمكان بغية “استبعاد” الملح الزائد الذي يحيط بنا. ولا ننسى أن إضافة التوابل الى الطعام لا تعني زيادة الملح فقط! فهناك المئات من التوابل والنكهات المختلفة من جميع أنحاء العالم، وهذه المكوّنات اللّذيذة الطَّعم يمكن أن تساعدنا في استكشاف آفاق مطبخيّة جديدة.
الطبخ بالزبدة هو أيضا على القائمة السوداء. ويفضّل أخصائيّو التغذية زيت الزيتون بديلا له. بحق؟
تتمتع الزبدة بصفات طَعميّة لا يمكن إنكارها، لكن زيت الزيتون هو بالفعل دهن غير عادي لجهة الوقاية من الأمراض المزمنة. ثم ان هذا الزيت غنيٌّ جدًا بالدهون الأُحادية غير المشبعة التي تُحدث انخفاضًا في الكولسترول الكلّي، خاصة الكولسترول “الضّارّ” (LDL)، مع ارتفاع مستويات الكولسترول “الجيّد” (HDL). وهذا يؤدّي الى التّخفيف من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. كما يتميّز زيت الزيتون عن الزيوت النباتية الأخرى باحتوائه العديد من المركّبات الفينولية المضادّة للأكسدة وللالتهابات، وأشهرها الأوليوكنتال. هذا الجزيء له مفعول ضدّ الإلتهابات مماثل لنشاط الإيبوبروفين، من شأنه أن يمارس تأثيرات مشابهة لهذا الجزيء في الوقاية من سرطان القولون. ويمكن اعتبار زيت الزيتون الدّهن الوحيد الذي يتمتّع بفاعليّة مضادّة للسرطان.