لا يُحِب يسوع المظاهر ولا يسعى الى الشعبية فإنه بعد التجلي على جبل طابور وشفاء الشاب المُصاب بالصرع يُحاول الهروب ولا يريد أن يعلم أحد، لا بل بالعكس فإنه يعلم تلاميذه بأنه سيتألم ويموت ويقوم في اليوم الثالث.. لا يريد أن يعلم أحد..!
أما التلاميذ فلم يفهموا ولكنهم يخافوا أن يسألوه لا بل يتجادلون فيما بينهم في الطريق مَن هو الأعظم وكأنهم يُحضِّرون أنفسهم لتقاسم المناصب وتوزيع الحقائب الوزارية في مملكة اسرائيل التي سيعلنها المسيح المُحرِّر والمُنتصِر..
إنه في واد وهم في واد..! لم يفهموا ولن يفهموا أو أنهم يفهمون “بالشقلوب”…!
هو يهرب ولا يريد أن يعرف أحد.. وهم يتقاسمون المناصب..
هو يتكلم عن الألم والموت.. وهم يتكلمون عن العظمة والمجد..!
لذلك يستغل الفرصة في البيت لكي يُعلمهم المعنى الحقيقي للسلطة والعظمة: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ». ويعطي مثلاً بأن يقيم طفلاً في وسطهم ويدعوهم للعودة الى الطفولة من جهة والى التواضع من جهة أخرى..
سبحان الله ما أشبه اليوم بالأمس..!!
فذات القصة تتكرر كل يوم منذ آلاف السنين: صراعٌ على السلطة وطلبٌ للعظمة لا بل تقاتل عليها وتمسك بها لدرجة اراقة الدماء.. والأسواء هو سوء الفهم لمعنى السلطة على انها تسلط على العباد لا بل تحكم بالرقاب واستعباد..
والسيد المسيح يعطي من نفسه قدوة قولاً وعملاً:
قولاً عندما علم: “إن ابن الانسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم ويفدي بنفسه جماعة الناس” أما عملاً عندما غسل أقدام تلاميذه “اذا كنت أنا المعلم والرب أغسل اقدامكم فاعلوا انتم ايضاً كذلك”.
وبما أنه يطلب منا هذا أن نعمل بما علَّم وفعل فإني أعتقد بأن الكنيسة أولاً يجب أن تكون خادمة ابتداء من قداسة البابا الذي يوقع “خادم خدام الله” مروراً بالأساقفة ووصولاً الى الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والمكرسين لكي نكون قدوة للقطيع، فالرب يكرر لنا نفس الكلام لا بل التوبيخ: “لا يكونن بينكم كذلك!”
وبالفعل فإن الكنيسة هي “أم ومعلمة” في الخدمة في كافة المجالات في المستشفيات والمدراس وبيوت العجزة والمعاقين وكل أنواع الخدمة مع الفقراء والمتألمين.. مع أنها أحياناً تظهر عظمتها بخدمتها ولكن مطلوب منها أن تخدم بتواضع الأطفال وبساطتهم.. وهذه دعوة الى التواضع والبساطة..!
كما أن المسيحي مدعو لأن يكون خادماً في بيته ومجتمعه وعمله وأن يعمل من أجل المصلحة العامة حتى ولو بلغ إلى أعلى الدرجات من العلم والنجاح والجاه والمال.. فإنه يستطيع أن يستخدم هذه النعم والهبات في سبيل خدمة أعظم لا بل أكثر وأن يُسخِّر كل امكانيته من أجل الآخرين.. وهذه دعوة الى البذل والعطاء المجانيين..!
أما الحكام والرؤساء والسلاطين فلا أستطيع أن أحكم عليهم ولكن أعمالهم تشهد عليهم.. واللبيب من الاشارة يفهم والمكتوب يُقرأ من عنوانه، ولا أريد أن أزيد كلمة وأحدة الا أن ارفع صلاة مع القديس بولس: “أَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ تُقَامَ طِلْبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ” فبما أن بين أيديهم مقاليد الحكم والأمر والنهي فإنهم يتحكمون بمصائر شعوبهم: فإما أن يقودوهم الى الهلاك كما نرى، وإما أن يقودوهم الى الأمن والامان والاستقرار والازدهار، وهذه ما نتمناه ونتوق اليه في عالمنا عامة وفي شرقنا خاصة وبلادنا على الأخص..!
إن هذه النص يقودنا إلى التمييز بين الغث والسمين ويؤسس لمنهج في الرئاسة والسلطة على أنها خدمة ورعاية يتحمل مسؤوليتها من انتدب لهذه المهمة من الشعب لخدمة الشعب وليس للسيطرة على الشعب. كما أن هذه المسؤولية مشتركة يحملها كل واحد بحسب المهمة الموكلة إليه وفي المكان المخصص له، فلا يتنصل أحد من القيام بنصيبه من خدمة مجتمعه. وتفترض المحبة والتضحية حتى بالحياة والبذل للغالي والنفيس والعطاء المجاني دون شروط ولا قيود ولا حدود.
الاب رائـد ابو ساحلية
مدير عام كاريتاس القدس