وُضعت السنة الكنسية أصلاً لحفظ الأحداث والتذكارات والأعياد. وتتصف السنة الليتورچية بأن محورها يرتكز على شخص وعمل الرب يسوع، وتُهدف إلى خدمة مجده الخلاصي.
ففي السنة الكنسية تبرز أحداث الإنجيل الخلاصية على مدار الزمن الليتورچي:- البشارة والميلاد والختان ودخول الهيكل والعماد والصوم الأربعيني والتجربة على الجبل ودخول أورشليم والتجلي والآلام والصليب والقيامة والنزول إلى الجحيم والظهورات والصعود وحلول الروح القدس؛ لتحيا الكنيسة تكريس الخلاص مع شخص المسيح الرأس والأصل والبداءة والأساس.
فالأحداث الخلاصية حدثت مرة وإلى الأبد، هي ليست ماضية لكنها حاضرة الآن وقد أتت، ونحن نحياها الآن وإلى الأبد عبر الدورات الطقسية، لأنها أحداث باقية إلهية أبدية فوق الزمان مالئة للكل.
وفلسفة السنة الطقسية الكنسية (التوتية) في أنها تجعل الأوقات حاسمة يتحقق فيها تدبير الخلاص بدينامية مستمرة، حيث يغمر ملء الزمان زماننا العتيق الفاني، لنعيش جِدّة الحياة ومعناها، كأحباء لله في المسيح يسوع، بسعادة حقيقية يقينية، ونتفكر ونطلب ما فوق ونحيا في صميم تدبير الحمل الإلهي وحياته وفكره، لأن كل ما صنعه هو من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، فيكون اليوم الحاضر هو يوم الله الحي، وتكون السنة سنة الرب المقبولة، ويكون الزمن زمن خلاص الخليقة الجديدة… احتفالاتها وحياتها أليفة لجميعنا، في وُلُوج زمني تدريجي نحو سر التدبير الخلاصي ككل.
إن مغزى السنة الليتورچية (Liturgical Year) يتركز في تقديس هذا الزمان، فهي ليست مجرد رُزْنامة أو أچندة أعياد، بل هي سنة الرب المقبولة كإمتداد ليوم الرب الأبدي، وحضور مسيحنا الذي هو زماننا الجديد، والذي هو فوق الزمان والمكان… والذي نحتفل به في ليل إيماننا إلى أن يكتمل كل شيء في نور يوم مجيئه، وهو أيضًا مجالنا الحيوي الذي فيه نرى الأبدية ونطل عليها وسط حركة الزمن، فها هو ملكوت الله الذي نطلبه هو داخلنا وسط ربقة الزمن، مع المسيح حياة كل أحد، الذي افتدى الزمن وجعل له معنى، وفتح لنا زمن الملكوت لندخله كأبناء نهار في موكب النصرة كل حين، ونتأهل لشركة ميراث القديسين عبر محطات وتذكارات، نتزود فيها بالقُوت والشراب الروحي، ونأتي إلى وقود ومصدر النور والوجود والحياة الجوهرية، التي أتت وصارت لنا فعلاً الآن، وجعلت من غير المنظور منظورًا في الحياة التي نحياها… (حقيقة يقينية) تحتضن العالم وتعمل على تجليه سرًا .
تعترف السنة الكنسية اعترافًا زمنيًا متواصلاً بحقائق الإيمان واستعراضًا بانوراميًا (Panorama) متنقلاً من عام إلى آخر لأحداث الخلاص العظمى، لنحيا ونعيش هذه الأحداث الخلاصية، ونزفّ الكنيسة كل سنة إلى عريسها المسيح عبر الأزمنة الطقسية، وفقًا لترتيب البيعة “يوم إلى يوم يذيع كلامًا” (مز١٩ : ٢).
ومن الرائع أن الكنيسة حفظت مناسبات الأحداث في التقوى الشعبية وفي العقيدة، مميِّزة لطقس هذه المناسبات بقراءات وروحانيات وطقوس وأيقونات وألحان وجماليات خاصة ومميزة.
إنها مسيرة للتقليد الإلهي المقدس عبر الزمن الأبدي والباب المفتوح على السماء؛ حيث حضن الآب الذي نعبده بالروح والحق والتمجيد عبر الأزمنة كلها، نتحد معه؛ لأنه سيد التاريخ ومعناه، وهو عِيد التاريخ الأوحد الذي نعيشه الآن، ونحمل باستمرار ثمرته الأبدية مع كل الذين يطيعونه، في آنية دائمة.
فالينبوع واحد لا يتغير؛ لكنه متدفق ودائم التجديد… والزمن قد مُسِح بملء المسيح النهائي، والسنون قد تدشنت بخلاص المسيح لنذوق وننظر ونتأقلم مع قداسته وخلاصه… في مناسبات وأصوام وأعياد وأوقات وعلامات عهدٍ، وأختام أمانة، واتحاد وحضور يشبه المَد والجذر عبر إيقاعات دورات الوحدات الطقسية في معناها الإجمالي؛ ضمن قانون العبادة وقانون الإيمان المشيد على أحداث تدبير المسيح الخلاصية فتكون حاضرة هنا والآن حقيقة راهنة .
إننا كل يوم في سنة الكنيسة نخطو خطوة في حركة مسيرتنا نحو أبديتنا، ويصير زماننا زمنًا مقدسًا يحمل معنى الذُروة والنهاية، حيث تتوزع البركات في دورات ومواسم الزمن الطبيعية، شاهدة لفرح الخلاص وتذكاراته (كفعل إعلان خلاصي كوني).
ومن الجدير بالذكر أن الكنيسة أسست نظام السنة الكنسية منذ عصر الرسل بطريقة جزئية، ثم تطورت وفقًا لمتطلبات العبادة والمناسبات، حتى أخذت تكوينها الحالي بمرور الأجيال، ووصل عدد أعيادها ١٤ عيدًا، سبعة سيدية كبرى وسبعة سيدية صغرى، وجميعها مبنية على الإنجيل. إضافة إلى أعياد وتذكارات الملائكة والرسل والشهداء والمعترفين والقديسين والنسّاك الحَسَني العبادة ولُبّاس الصليب الذين تشهد سِيَرهم على إمكاينة حياة القداسة في كل جيل ضمن كتالوج سنكسار الكنيسة. ليكون كما في السماء كذلك علي الأرض، من جيل إلى جيل وإلى دهر الدهور كلها .
وتنتهج الكنيسة في وضع الأزمنة الطقسية نهج تقسيم السنة إلى:- عيد النيروز ثم عيد الصليب، ثم زمن صوم وأعياد الميلاد والظهور الإلهي، ثم زمن الصوم الكبير والبصخة المقدسة، ثم زمن القيامة والخماسين المقدسة، ثم زمن الرسل الأطهار والكرازة، ثم صوم سيدتنا وملكتنا العذراء مريم… وبقية تذكارات نهاية السنة وقراءات المجيء الثاني التي نعيش خلالها دورات العالم الآتي، حيث المسيح مالئ الكل، والذي أعطانا كلما نتطلع نجد فرح خلاصه وسر اتحادنا وعودتنا إليه.
وبالجملة خلال السنة الطقسية الليتورچية نعيش ونُعِيد اكتشاف حقائق ورؤية ما لا يُرى من حيث أنه يُرى، وإدراك ما لا يُدرك من حيث أنه يُدرك (تعالَ وانظر) باللقاء الحي والحاضر المكرس، في الخدمة الإيقاعية المرافقة لسير الزمن (يوم واحد عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد) (٢ بط ٣ : ٨)، نحيا كل ساعة مطابقة تدبير المسيح الخلاصي حاضرًا، نعيش أحداثه حتى نصل لأعتاب الأبدية والدهر المستمر إلى دور فدور، دائمًا قائمون بين ميلاد وميلاد، بين قيامة وقيامة، بين مجيئَي المسيح (تجسده الي مجئيه الثاني) فتكون لنا السنة الطقسية معملاً للأبدية ولإذاعة أعمال الله التي انكشفت في الزمن.