الصيف مقبل، والقرى اللبنانية تكاد تكون مهجورة من سكانها، عدا قلَّة من أبنائها أصروا على البقاء فيها، وآخرين أصبحوا كالرُّحَّل يتنقَّلون ما بين العمل في العاصمة والسكن في القرية، في حين أنَّ الاكثرية فضلت الانتقال للعيش في بيروت، مدينة الحياة والصخب. لكنَّ النزوح ألقى بأعبائه على المجتمع اللبناني بأكمله، فبرز نقص حاد في اليد العاملة في القطاع الزراعي، مقابل تضخُّم سكاني ملحوظ وبطالة متفشية في بيروت.
يقول رامي “لا شيء يجعلني أبقى هنا، وإذا لم أحصل على تأشيرة للسفر الى الخارج فسأبحث عن وظيفة في بيروت. القرية ليست سوى مأوى للعجزة، وهي تحدُّ من طموحي ومستقبلي”. أما رلى زويني، التي انتقلت وأهلها من منطقة نيحا الشوفية للسكن في الشويفات بعد ولادتها بشهر واحد، فتقول “نشأت في منطقة الشويفات، وأمضيت كل هذه الاعوام فيها، بالنسبة إليّ نيحا لا تعني شيئاً، إلاَّ أنها تمثل مسقط عائلتي، ولا أفكر بتاتاً بالعودة للسكن فيها”.
من جهتها، تعتبر سحر أنَّ “الدافع وراء هجر الشباب القرية هو انعدام فرص العمل، وعدم دعم الزراعة، وغياب المشاريع التنموية والبنى التحتية، هذا في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي”، وتضيف “أما في ما يتعلق بالجانب النفسي فيظن الشباب أن المعيشة أسهل في المدن ومتطورة وبورجوازية أكثر، وينخدعون بالمظاهر البراقة، وتخفى عنهم أحزمة البؤس المتشكلة بفعل تفاقم الفقر”. في حين تؤكد تاج رحمة أنَّ “اللبناني بطبيعته متمسك بجذوره وحياته القروية، ولكنه اضطر للانتقال الى المدينة ومعظم دوافعه اقتصادية، لعدم توافر فرص العمل التي تضمن مستقبله، ناهيك عن متطلبات الحياة التي تزداد يوماً بعد يوم”.
ويلفت وليد إلى أنه “من الضروري أن تضع الدولة سياسة اقتصادية – اجتماعية تتوجه إلى فئة الشباب الذين يتركون قراهم، لأنه لا يجوز أن نركض وراء الوظائف غير الموجودة في القرية، كما أنَّ الدولة لا تقدم حلولاً عملية مباشرة. توفير الظروف والشروط المناسبة للعيش والعمل في قرانا أمر ضروري بدءاً من تنظيم البنى التحتية وتفعيل دور الإدارات والاعتماد على اللامركزية الإدارية، مما يجعلنا نستعيد أحلامنا وتفاؤلنا لنقدَّم لمناطقنا أفضل ما نملك من طاقات وإمكانات من دون الاضطرار إلى مغادرتها”.
الإنماء يولِّد الانتماء
يؤكد رئيس بلدية حصرون لابا عواد أنَّ “عدداً كبيراً من أهالي حصرون هجروها ونزحوا نحو طرابلس وبيروت أو سافروا إلى الخارج، بهدف تأمين مستقبلهم وصار الشباب يبحثون عن العلم ولا يهتمون بالأرض”. ويضيف “من يبني مستقبله في بيروت يصبح من الصعب عليه العودة إلى القرية، والأصعب هو عندما تترك العائلة بكاملها القرية بعدما صار الأهل يلحقون أولادهم ويبحثون عن عمل ثانٍ كي يخففوا من الأعباء المالية وعناء وجود منزلين ومصروفين، وبمجرد نزوح الأهل للسكن مع أولادهم في بيروت، يصبح منزل القرية مقفلاً لا يزورونه إلاَّ نادراً، وهذا ما ينزع الإنسان من جذوره”. ويصف عواد السكن في القرية عموماً وحصرون خصوصاً بـ”الصعب وذلك بسبب غياب الجامعات، واقتصار التعليم على المدارس إضافةً إلى عدم وجود مستشفيات قريبة”. ويشير إلى أنَّ “الحل يكمن في اهتمام الدولة بقطاع الزراعة صيفاً وشتاءً عبر مساعدة المزارع وشراء محاصيله، وكذلك بتفعيل القطاع الصناعي عبر بناء معامل في المنطقة تقوم بتوظيف أهالي القرى المحيطة، مع أولوية تكريس اللامركزية الإدارية عبر قيام إنماء متوازن يكفل بقاء المواطن في أرضه”.
هروب لحماية الذات
لكن للنزوح من الريف الى المدينة عوامل اجتماعية واقتصادية، “أو حتى فكرية – سياسية”، وفق الاختصاصي في علم النفس الشكلي جود أبو صوان. وأبرز هذه العوامل هو العامل النفسي المتمثِّل بالهروب لحماية الذات، “ففي المدينة يندمج في مجتمع كبير يحاول من خلاله بناء ذات جديدة وتكوين شخصية مستقلة تبتكر أفكاراً وذكريات مختلفة بعيداً من ذكريات الماضي التي لا يفتخر بها، إضافةً إلى هدف التحرر من الضغط النفسي للأهل والبيئة المحيطة”.
اما من جهة علم الاجتماع، فيرى الدكتور هاني صندقلي أنَّه “في ظل الإهمال والتهميش اللذين يعيشهما بعض الشباب في قراهم، أصبحت بيروت قِبلة لهم ومرتعاً لتحقيق أحلامهم، إلاّ أنَّ هؤلاء، وعلى رغم نكرانهم أو هروبهم النفسي من قراهم، سيبقون حاملين لموروثات وسيعيشون إزدواجية أسَّس لها نظام الأحوال الشخصية الطائفي، والتربية التقليدية، والتأثر بنمط الحياة المديني على الصعيد الإستهلاكي والمظهري فقط”. علماً أن النزوح اللبناني لم يتَّخذ لغاية الآن شكل القطيعة مع مكان الولادة – وفق القيد – “ولم ينتمِ اللبناني إلى الوطن بمفهومه القومي والوطني، بل كان الإنتماء ولا يزال لجماعة الولادة، والمذهب أو الطائفة. لكن المدينة تبقى المكان الأرحب لممارسة المواطنة الزائفة”.
سلوى أبو شقرا / نهار الشباب