في ظلّ الدولة الرومانيّة ما قبل الإمبراطور قسطنطين الكبير كان يكفي أن يعلن أحدهم أنّه مسيحيّ حتّى يُحكم عليه بالموت. فالإمبراطور ترايانس (53 – 117) كتب إلى أحد ولاته جوابًا عن كيفيّة التعامل مع المسيحيّين، فقال “لا بدّ من الحكم على كلّ شخص يُتّهم بالوقوع في تلك الخرافة (أي الإيمان المسيحيّ) ويرفض أن ينكرها وأن يقدّم الذبائح للآلهة”.
يستنكر ترتليانس (+240)، أحد علماء الكنيسة في إفريقيا الشماليّة، موقف الدولة الرومانيّة من المسيحيّين واضطهادهم لمجرّد كونهم مسيحيّين، حتّى وإنْ كانوا صالحين وأذكياء. في هذا السياق يقول: “إنّ الغالبيّة منكم تضمر للاسم المسيحيّ هذا بغضًا أعمى حتّى إنّهم لا يستطيعون أن يشهدوا للمسيحيّ شهادة حسنة إلاّ ويشوبونها باللوم لأنّه يحمل هذا الاسم. يقول أحدهم: إنّ غايس سيوس رجل نزيه، فمن المؤسف أن يكون مسيحيًّا ! ويقول آخر أيضًا: أمّا أنا فأستغرب أن يكون لوقيوس تيطس، ذلك الرجل الواعي، قد أصبح مسيحيًّا فجأة. ولا أحد يتساءل هل غايس ليس هو نزيهًا ولوقيوس ليس هو واعيًا إلاّ لأنّهما أصبحا مسيحيّين، ولا هل هما لم يصبحا مسيحيّين إلاّ لأنّ الواحد نزيه والآخر واعٍ”.
ويتابع ترتليانس انتقاده لموقف الدولة الرومانيّة التي كانت تلصق بالمسيحيّين كلّ المصائب والكوارث التي تضرب الإمبراطوريّة، فيقول: “كان الوثنيّون ينظرون إلى المسيحيّين على أنّهم سبب الكوارث العامّة كلّها والمصائب الوطنيّة كلّها. فإن فاض نهر التيبر في المدينة (روما)، وفاض النيل في الأرياف، وإن بقيت السماء ساكنة واهتزّت الأرض، وإن أُعلن عن انتشار المجاعة أو الطاعون، سرعان ما يعلو الصراخ: ليُلقَ المسيحيّون إلى الأسود”.
ما كان المسيحيّين من هذا الاضطهاد الممنهج؟ يجيب ترتليانس نفسه على هذا السؤال متوجّهًا إلى الرومانيّين الآخرين: “إنّنا نعيش معكم، ونأكل مثلكم، ونعيش بحسب النمط الذي تعيشون به، ونخضع لضروريّات الوجود التي تخضعون لها… دون أن نتوقّف عن التردّد إلى ساحاتكم العامّة، وحمّاماتكم، ومحلاّتكم، ومخازنكم، ومعارضكم، وسائر الأماكن التجاريّة، نحن نقيم في هذا العالم معكم، ومعكم أيضًا نسافر بحرًا، ومعكم نخدم خدمة الجنود، ونعمل في الأرض، ونمارس التجارة، وكذلك نبادلكم منتجات فنوننا وعملنا”.
ولا يختلف موقف كاتب الرسالة إلى ديوغنيطس (نهاية القرن الثاني الميلاديّ) عن موقف ترتليانس، إذ يقول: “لا يتميّز المسيحيّون عن سائر الناس لا بالبلد ولا باللغة ولا باللباس. ولا يقطنون مدنًا خاصّةً بهم، ولا يستخدمون لغة محلّيّة غير عاديّة. ونمط عيشهم ليس فيه أيّ تمييز… وهم يتوزّعون في المدن اليونانيّة أو البربريّة حسبما قُسم لكلّ منهم. وهم يتكيّفون والعادات المحلّيّة المرعيّة، في ما يخصّ الملبس والمأكل وأسلوب المعيشة، فيما هم يجاهرون بالشرائع الغريبة وغير المألوفة حقًّا الخاصّة بملكوتهم الروحيّ، ويقيمون كلٌّ في وطنه، ولكن كغرباء مستوطنين ويؤدّون واجباتهم كاملة كمواطنين، ويتحمّلون كلّ الأعباء كغرباء. فكلّ أرض غريبة هي بمثابة وطن لهم، وكلّ وطن هو بمثابة أرض غريبة”.
لسنا هنا في معرض الشكوى والبكاء والاستجداء… فليس المسيحيّون وحدهم مَن يدفع ضريبة الدم في بلادنا المشرقيّة، فأعداد الضحايا من المسلمين لا تحصى ولا تعدّ، والإمبراطور الرومانيّ قد بُعث حيًّا، هنا وثمّة. وهو يضطهد كلّ مَن لا يعبده ولا يسجد أمام تماثيله ولا يقدّم له الطاعة العمياء…لا فرق لديه بين مسلم ومسيحيّ.
لكنّ الموقف المسيحيّ ينبغي ألاّ ينحرف إلى مواقف متشنّجة تغذّي ما يهدف إليه المتطرّفون، أي الفتنة الطائفيّة. فمنذ ألفي عام أكّد المسيحيّون، ردًّا على مشروع إبادتهم، على إيمانهم بالعيش المشترك مع الوثنيّين ونجحوا. وهل يمكن وصف كلام ترتليانس وكاتب الرسالة إلى ديوغنيطس بسوى الإيمان بالعيش المشترك؟ أمّا المطلوب اليوم أكثر من أي يوم مضى فهو أن يتشبّث المسيحيّون بالعيش المشترك وبالشراكة مع المسلمين على قاعدة المواطنة الكاملة، وألاّ ينساقوا إلى منطق القتلة والسفّاحين، وأن يرفضوا تاليًا استعمالهم وقودًا في تسعير الفتن هنا وثمّة.
لسنا، إذًا، في معرض الشكوى والبكاء والاستجداء، أو في معرض الاتّهام… بل في معرض التأكيد على الوحدة الوطنيّة والوحدة الإنسانيّة في وجه الفتن الطائفيّة والمذهبيّة. حمى الله أبناء هذه البلاد جميعًا من كلّ شرّ.
الأب جورج مسّوح
ليبانون فايلز