استهلكت الكتابة عن فيروز نفْسَها ونفَسَها. يجب التفكير في أشكال غير تقليدية للتكريم تبدأ من الرد على سؤال صعب من هذا النوع: كيف لو قرر شعبٌ تكريمَ هواءِ بلادِهِ؟
أنتجَ هذا النوع من الأسئلة في الأزمان السحيقة دياناتٍ ومعابد وطقوساً جَماعية. لم نعد في هذا الوارد أي تأسيس دِين فيروزي. الإغريق فعلوها. وها هي قبرص جارتنا البحرية، آخر أوروبا المعاصرة، تتكنّى باسم أفروديت إلهة الجمال. في علوم السياسة تكنّت أول دولة – أمة في التاريخ الحديث وهي فرنسا باسم “مؤسسها” الملك – الشمس لويس الرابع عشر.
هل نسمّي أنفسنا الشعب الفيروزي ونعيد تأسيس الوطنية اللبنانية على هذا الإسم والتعريف في الأحوال الشخصية وحتى على جوازات سفرنا أي: الوطن لبنان. الشعب فيروزي. خصوصاً أن العناصر السياسية التقليدية لتأسيس، والأهم حماية، هذه الوطنية اللبنانية فشلتْ حيال تدهور بل انحطاط الدولة اللبنانية، وبالتالي كما اقترحنا مرة في مقال نزعم ونصر أنه بالغ الجدية يجب أن نعيد تعريف مبرر لبنان على أسس ثقافية جديدة تأخذ بعين الاعتبار العميق وجود أهم جامعتين في العالم العربي على أرضنا وهما الجامعتان اللتان تأسّستا قبل “لبنان الكبير” وفي السياق التاريخي أنتجتا النخبة التي قادت محلياً تأسيس دولة لبنان الكبير. الجامعتان اليسوعية والأميركية!
لبنان هو دولة تعليم وفنون. أكاد أقول فقط. لعلنا البلد الوحيد في العالم الذي بلْورتهُ جامعتان وتلونه مغنية غير عادية. ألمانيا الحديثة، من المسلّم به، أنها تأسست لغةً وثقافة على يد أول ترجمة للإنجيل قام بها مارتن لوثر، ثم العهد القديم وهو نفسه الذي سيطلق أكبر وأعمق حركة إصلاح ديني صارت مرادفة لانطلاق الرأسمالية التي تواكبت مع عصر النهضة.
التعليم والفنون لا باعتبارهما فقط دوراً بل هوية لبنانية. واسمنا الشعب الفيروزي.
إنه الشعب الذي غَنّتْ صِفَتُهُ شعوباً أُخرى، وحملت عبر أصوات شعراء كبار، كقافلة ميتولوجية، مكونات أخرى لمجدها: من مكة، لدمشق، للقدس، لبيروت، لفضاءات المنطقة، لجهات لبنان القارية من عكار إلى تنورين إلى بعلبك إلى جبل عامل إلى أفرادها الزياديين وهمومهم العادية النفاذة كأنها غير عادية… إلى إلى… فمن يحصي الهواء؟
فيروز كانت سفيرةً وصارت إلَهة. صارت صفة لشعب. تحيط بالشوارع التي تحيط بالمدينة مغنياتٌ ومغنون يطرن ويطيرون لا حولها ولكن في ماهيتها.
هل يسأل الهواء عن محلّقيه بشراً وطيراً وطائرات؟
يمكن لصفة شعب أن تكون “غريبةً” عنه. هذا تعريف عزلة فيروز الفردية وهذا خيارها العميق كإنسان. ربما تعبير “مغتربة” أدق حين يعني اغترابُ الفرد حقَّه المقدس. كأن محمد الفيتوري يعني فيروز، الصفة، عندما قال عن اللبنانيين، الموصوفين: “غرباء ومغنِّين وأحلى أغانيهم على الأرض السلام”.
تكريم فيروز الصفة هو تكريم لكل صوت موهوب أو موهوبة. يكبر المغنون فيها ولا يصغرون.
كنا نستحي في صبانا اليساري حين نصف لبنان بأنه “بلد خدمات”. اليوم تطور المفهوم إلى “بلد خدمات ثقافية” يجعلنا نتشرّف بالتسمية حين يقارب المفهوم معنى الصفة – الهوية. هذه ليست ماركينتيلية. الدولة التافهة وحدها لا تعتبر وزارة الثقافة وزارة سيادية. فكيف بالدولة، التي تعريفها هو أنها دولة تعليم وفنون. اقتصاد التعليم والفنون. كهرباء التعليم والفنون. سياحة التعليم والفنون. صناعة التعليم والفنون. ماء التعليم والفنون. تعليم العلوم والفنون. مصرف مركزي للعلوم والفنون.
أوبرا في قلب بيروت باسم فيروز.
هناك في العلوم السياسية “الدولة البوليسية”، “الدولة الدينية”، “الدولة العنصرية”، الولايات المتحدة تُسمى “دولة إعلام” (لا نعرف ماذا ستسمى بعد فوز دونالد ترامب)، أفغانستان “دولة أفيون” و”جمهوريات الموز” الشهيرة في أميركا اللاتينية.
لنكنْ دولة تعليم وفنون. وهذا يتطلب جيشا قوياً ونظاماً ديموقراطياً… وشعباً فيروزياً.
جهاد الزين
النهار