لم يرتبط موضوع “الشكّ” بأحد من الناس بقدر ما ارتبط باسم القدّيس توما الرسول. فهو الذي قال شاكًّا بأساس الإيمان المسيحيّ، بقيامة المسيح من بين الأموات: “إنْ لم أعاين أثر المسامير في يديه وأضع إصبعي في أثر المسامير واضع يدي في جنبه لا أؤمن”.
غير أنّه حين تراءى له يسوع آمن بقيامته وهتف معلنًا بإيجاز الإيمان بالمسيح: “ربّي وإلهي”. أمّا يسوع فقال له: “لأنّك رأيتني آمنت؟ طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يوحنّا 20، 24-29).
بيد أنّ واقع الأمر يفيدنا أنّ التلاميذ كلّهم، وليس توما وحده، قد شككوا بيسوع المسيح. فالأناجيل تخبرنا عن إنكار بطرس الرسول معرفته بالمسيح ثلاث مرّات متتالية، وعن خوف التلاميذ كافّة وفرارهم ليلة القبض على يسوع، وتواريهم عن الأنظار… غير أن شكّ التلاميذ تبعه، لدى معاينتهم للحقيقة، إيمان عميق وتكريس كامل أدّى في معظم الحالات إلى تقديم ذواتهم شهداء في سبيل الله والكنيسة الناشئة.
لا بدّ، هنا، من الحديث عن يهوذا الإسخريوطيّ وخيانته التي أدّت به إلى الانتحار خنقاً. في الحقيقة، التلاميذ كلّهم خانوا معلّمهم لمّا رأوه معتقلاً كاللصوص ومعذَّباً ومصلوباً، وخيانتهم لا تقلّ عن خيانة يهوذا.
غير أنّ ما يميّزهم عن يهوذا الذي “لم يشأ أن يفهم”، أنّهم عندما أدركوا الحقيقة ندموا وتابوا، وأزاحوا الشكّ جانباً، وتيقّنوا من أنّ الماثل أمامهم إنّما هو في الحقيقة ابن الله مخلّص العالم، فحملوا اسمه وبشّروا به في المسكونة كلّها. وكان باب التوبة مشرّعاً أمام يهوذا أيضاً، لكنّ يأسه من رحمة الله قضى عليه.
تصف النصوص العباديّة الأرثوذكسيّة موقف توما الشاكّ بالموقف الجميل: “يا لمستطرف عدم تصديق توما الجميل إذ أقبل بقلوب المؤمنين إلى المعرفة”. ارتياب توما كان ارتياباً جميلاً، لأنّه ارتياب إيجابيّ يبتغي البحث عن الحقيقة والخضوع لها، وليس البحث عن عدم التصديق مهما كانت البراهين. لم يكن موقف توما عناداً لا رجوع عنه مهما كانت الحجج، بل هو تفتيش عن الرسوخ في الإيمان.
اليقين الذي رسا عليه توما لم يكن يقينًا عقائديًّا فحسب، لم يكن اعترافاً عقلياً فحسب… بل كان يقيناً نجم عنه تغيّر كامل في كيان توما دفعه إلى الالتزام بكلّ مقتضيات الحياة في المسيح، والعمل بموجب وصاياه وتعاليمه، وتحقيق مشيئته في الأرض.
فتوما حين اعترف بأنّ المسيح “ربّه وإلهه”، إنّما كان يقصد الخضوع التامّ، قولاً وفعلاً وفكراً، لهذا الإله الذي أحبّ العالم حتّى الموت على الصليب من أجل خلاصه.
كلّ خطيئة يرتكبها الإنسان هي دليل على وقوعه في الشكّ، وربّما في إنكار وجود الله، لأنّ مَن يرتكب الخطيئة يجعل الله غائبًا عن حياته.
أمّا اليقين فدليله وبرهانه التوبة، إذ هي اعتراف بوجود الله، وبقدرته على منح الغفران. الله لا يبحث عن إقرار لفظيّ بألوهته وربوبيّته ينطق به الإنسان، إنّما يبحث الله عن إنسان يخبر بأفعاله عن مجد الله، ويعلن بتوبته سيادة الله عليه وعلى الأرض كلّها.
النهار