لا يمكننا أن “نتحدث عن الحب” دون أن نلقي نظرة معمقة على وصية الحب المزدوجة التي يستخلصها يسوع من العهد القديم. نعرف أن عدد الوصايا وتعليمات العهد القديم كان 613 ولذا خيار يسوع أمام سؤال الكاتب يبين لنا مقدار أهمية الوصية الكبرى: “أحبب الرب إلهك من كل قلبك، كل فكرك وكل قواك” والوصية الثانية المساوية لها بحسب يسوع: “أحب قريبك كنفسك” (راجع مت 22،39؛ مر 12، 31؛ لا 19، 18).
بعض التفاسير حول معنى هذه الوصية هي ذات سطحية بالغة! فقد سمعت أذناي تفاسير مغزاها أن الرب يدعونا أن نحب نفسنا أولاً وأنه بعد أن نحب نفسنا بما فيه الكفاية نستطيع أن نبدأ بالتفكير بمحبة الآخرين. إن هذا الـ “أولاً” و الـ “بعد” هو اصطناعي وتطبيقه العملي يحمل إلى غرق متزايد في الذات دون أن يحمل إلى انفتاح على محبة الآخرين. إنه لوهم أن نظن أن الإنسان يصل إلى مرحلة يقول “كفى، لقد نلت ما أنا بحاجة إليه من الحب، والآن يمكنني أن أبدأ بحب الآخرين”. في قلب الإنسان “غمرٌ” ينادي “غمر الله، كما يذكرنا المزمور وبقدر ما نستطيع أن نملأ قلبنا بأنواع الحب (الصالحة أو الطالحة) فقلبنا لن يكتفي، لأن الله خلقه له وفيه وحده يستريح ويمتلئ.
ما هو إذا معنى هذه الآية والوصية؟
فلنبدأ من تعليم أرسطو في أخلاقياته إلى نيقوماخوس الذي يقول: “إن عواطف الصداقة نحو قريبنا، والتي تشكل معيار كل صداقاتنا، تنبع من عواطف الإنسان نحو ذاته”. فالحب نحو الذات هو بشكل طبيعي مقياس ومعيار الحب نحو الآخرين. لعل أكثر من فهم تعليم أرسطو هو آباء الصحراء (والكنيسة) الذين توقفوا في مراحل عدة حول محبة الإنسان لذاته مستعملين عبارة يونانية “فيلاوتيا” ومعناها الحرفي “الصداقة مع الذات”. ويوضح الآباء – ولعل أكثر من تحدث عن هذا الموضوع في بينهم هو القديس مكسيموس المعترف – أن هناك نوعين من الـ “فيلاوتيا”. الأولى هي رذيلة الأنانية، بينما الثانية هي المحبة الصالحة للذات.
أين نلحظ الفرق بين الاثنين؟ يوضح الأب إيرينيه هاوسهر أن الفرق يمكن في أن الإنسان الفاضل يحب نفسه بشكل أصيل بالتحديد لتجرده عن ذاته؛ أما الآخر فيبدو أنه يحب نفسه أكثر، ولكنه بالحقيقة محبته مريضة ومؤذية. فالرذيلة تدفع الإنسان لأن يحب نفسه كما هو دون أن يبغي أن يتحسن، بينما الإنسان الفاضل يحب نفسه حقًا لأنه يحب أن ينمي لكي يصل إلى العظمة التي خُلق لأجلها.
يحب الإنسان نفسه حقًا عندما يحب خيره الأعظم، بينما يحب الإنسان نفسه بشكل مريض عندما ينطوي على ذاته وعلى صغر نفسه.
يحب الإنسان نفسه حقًا عندما يحب الله لأن ملء الإنسانية هو الاتحاد بالألوهة، الاتحاد بالله. قلب الإنسان هو مثل العين: العين السليمة لا ترى شيئًا من ذاتها، وعندما تبدأ العين برؤية شيء من ذاتها يعني أنها مريضة. كذلك نحن: نعيش الحب بشكل سليم إذا ما تمكنّا من الانفتاح على الآخرين باتزان وحكمة وروية.
أختتم هذا القسم من السلسلة بتنبيه للقديس أغسطينوس القائل بأن الرب يدعونا لكي نحب ذواتنا ولكنه يحذرنا أيضًا ألا نخسر ذاتنا. لذا لا يجب أن نحب ذواتنا بأنانية لكي لا نخسر ذواتنا.
زينيت