اعداد الدكتور ايلي مخول
إذا كانت فكرة “الصفر” مألوفة عندنا ولا غنى عنها حتى في الحياة اليومية، فإن البشرية عاشت زمانا طويلا دون أن تعيرأي اهتمام للغياب. كتب شارل سيف في مؤلَّفه “الصفر. سيرة فكرة خطيرة” ( “Zero. The Biography of a Dangerous Idea“): “ببساطة، لم يكن المفهوم أصلاً قائما، فلست بحاجة إلى تسجيل صفر خروف أو عدّ أطفالك الصفر“. ولم يكن للصفر وجود، لا عند المصريين الذين برَعوا في علم الفلك وحساب المسطّحات، ولا بين الإغريق الذين دفعوا بفنّ الرياضيات والهندسة إلى أبعد الحدود. كذلك لم يكن هناك أثر في المفهوم الفيثاغوريّ الجديد الذي أثّر على جانب من الفلسفة المسيحية، لا للفراغ ولا للاّمتناهي. ذلك أن الأمر لم يتعلّق سوى باحتمالات خيالية يستحيل تحقيقها.
أربع حضارات اخترعت أو اقترضت الصفر لعملياتها الحسابية، فأعطت بذلك معنى للغياب. ولكن للقيام بذلك، كان يتعيّن عليهم أوّلا وضع أسس عدّ يسمّى لا كمّيّ. على أن قيمة العدد ليست ثابتة، فهي تختلف بحسب الموضع الذي تشغله في كتابة الرقم.
أوّل صفر في التاريخ كان بابليّا. وقد ظهر في القرن الثالث قبل الميلاد حين أرسى أناس من بلاد ما بين النهرين، بعد ذلك بألف عام، أسس نظام حساباتهم الستّيني. أحد خصائصه يقوم على العدّ اللاّ كمّي، حيث يعني المسمار البسيط الوحدة من مثل 60، 602، 603، إلخ. لكن لتفادي أي غموض، احتاج هذا النظام إلى علامة تشير إلى مكان فارغ في عدد ما، كما هو الحال في نظامنا العشري حيث يعني الصفر، عندما نكتب 5020، غياب المئة والوحدة. البابليون حلّوا المشكلة من خلال رسم علامة جديدة هي عبارة عن مسمارين مائلين يمثّلان مساحة فارغة. لقد كان الصفرالبابلي أولاً وقبل كل شيء علامة للمكان، ولئن لم يكن له قيمة رقمية خاصة به، إلاّ أن علماء الفلك استخدموه كمضاعِف. ومن خلال ربطه في نهاية عرض مرقَّم، كان يضاعف ستين مرة قيمة الرقم المطابق.
على غرارالبابليين، اعتمد شعب المايا نظام عدّ لا كمّيّ، طوّروه بين القرنين الرابع والتاسع، ولكن على أساس عشرينيّ. تمثلت في شكل خطوط ونقاط ، وكانت الأرقام تُعرض عموديّا، بحيث يكتب كل عدد يزيد على عشرين في الطبقة العليا. ومن أجل قراءة كل رقم في طبقته، ابتكرعلماء المايا صفراً، اتّخذ شكل حلزون أو صَدَفة أو قنَويّة هالة. يميّز شعب المايا في تقاويمهم بين صفرين اثنين: الصفر الأصليّ لتسجيل الزمان. ويرتبط بالفترة الرمزية (kin ، uinal tun ، baktun … أو يوم، مُدّة من 20 يومًا، 360 يومًا، 7200 يوم، 144000 يوم.) أمّا الصفر الترتيبي فيضع المواعيد التاريخية، ويكون دائمًا مصحوبا بقنوية شهرية. أمّا الصفر الحديث فيعود الفضل في ابتكاره للهنود، وهذا الصفر بالذات هو الذي يؤدي الوظائف الثلاث التي بتنا نعرفها الآن. الصفر كرمز حسابي، عندما يحلّ خلف عدد ما، يضاعفه (عشر مرّات بحسب القاعدة العشرية). وهناك الصفرالرقم الذي يمثل غياب الوحدات أو العشرات أو المئات، إلخ. أخيرًا الصفرالعدد الذي يتحدّد بطرح عدد صحيح بنفسه 0 = n-n والذي يصبح مثل أي رقم آخر، عاملا للألعاب الحسابية.
الأرقام من 1 إلى 9، التي اخترعها الهنود، ظهرت في القرن الثالث قبل الميلاد، حين لم يكن المبدأ اللاّ كمّي مطبقّا بعد.
لا يتمثّل كل رقم بمجموعة وحدات ولكن برسم بياني يدلّ على نفسه فقط. مع ذلك، وجب انتظار القرن الخامس ميلادي حتى يظهر عدّ لا كمّي وأوّل صفر هندي في شكل نقطة. في بحث حول علم الكونيات، يسمّى Lokavibhaga )أجزاء الكون(، يرقى الى العام 458، وردت كلمة shunya، “الفراغ” الذي يمثّل الصفر. وعلى النقيض من علماء الرياضيات المصريين واليونانيين، حرّرالعلماء الهنود الأرقام من كلّ احتمال مادّي. وإذا كان من المستحيل حصد ثلاثة هكتارات على أرض بها اثنان فقط – الأمر الذي كان يهمّ المصريين -، فمن الممكن طرح 3 من اثنين والحصول على نتيجة سلبية. وهكذا، بالنظر إلى الأعداد المضاف اليها علامة – وإلى قدرات الصّفرالرقميّة الغريبة، وضع الهنود، وعلى الأخص عالم الرياضيات Brahmagupta في القرن السابع ميلادي، أسس الجبر، وملأ وا الفراغ الذي راح يغزوالعالم.
منذ عهد أسرة هان المالكة (بين عامي 206 ق.م. و 220 م.)، كان للصين نظام عدّ لا كمّي خاصّ بها. ولمّا كان قائما على القاعدة العشريّة، فمن غير المستبعد أن يكون لهذا تأثيرعلى العدّ الهندي. بالمقابل، لم يظهر الصفر في النصوص إلاّ اعتبارا من القرن الثالث عشر وذلك في شكل دائرة صغيرة. الصينيون لم يخترعوه، لكن من المؤكّد أن الصفر قد أُدخل من قبل مبشّرين بوذيين من أصول هنديّة. في ذلك الزمان أيضًا، إنتشرالإسلام، الذي كان في أوج تمدّده، حتى ضفاف نهر السند واكتشف العدّ الهندي. فسمّي المصطلح المعرَّب Sifr، ومنه اشتُقّت كلمة chiffreالفرنسية و Ziffer الألمانية ومعناها رقم وأيضا عبارة شيفرة. لكن في غضون ذلك، حوّلته اللاّتينية إلى zephirum، ثم zephiro و zéro. وقد ظلّ الغرب المسيحي، المتأثر جدّا بالفكراليوناني، حتى القرن الثالث عشر عصيّا على مفهوم الصفر. في العام 1202، أصدرعالم الرياضيات Leonardo de Pisa، وهو تاجر إيطالي كثير الأسفار، كتاب الحساب “Liber abaci”، حيث أدخل الصفر إلى أوروبا. الكتاب هو أطروحة عن الأرقام العربية، التي قدّمت كأفضل نظام حسابيّ. وعلى الرغم من بعض التحفّظات، تمّ حظر الأرقام العربية عام 1299 في فلورنسا بدعوى أنه من السهل تزويرها – وانتهى العدّ الأصلي الذي نشأ في الهند البعيدة، وأصبح ضروريّا للتجّار، بفرض نفسه.