الحوارُ مع الله ، لا يُضاف إلى سائر الحوارات ، وليس هو خارجًا عنها ، لإن الله ليس هو كائنا يُضاف إلى سائر الكائنات . ليس هو تكملة في عدد المخلوقات ، كما يقول الفلاسفة . هذا هو سرّه ( وعلينا إحترام وقبول السرّ في الآخر ) ، والوسواسيّ الدينيّ ، لا يقبل بإحترام السرّ الإلهيّ .. بل يقوم بتصوّرات خياليّة جامجة مؤلمة ً جدّا لحياته ولحياة الآخرين ؛ الوسواسيّ يريدُ الله فقط لنزواته وحاجاته ومصالحه الشخصيّة كما ذكرنا ، إنه يستعملُ الله ( وعندما نقول ُ له : لا يجوزُ هكذا أن تستعمل الله بهذه الطريقة المشوّهة ، يجيبنا فورًا ” أوليس هو الله خالقنا ويقدر على كلّ شيء ويعرفُ كلّ شيء وبيده كلّ شيء ! ، الوسواسيّ قدريّ أيضا ، كلّ شيء ، في تصوّره ، مكتوبٌ وحظّنا بين يديه هو فقط . وعندما يفقدُ الثقة تمامًا ، ويشعر بإنّ ” الله صامتْ ” لا يتكلّم ( في تصوّره ) ، سيلتجأ إلى العلوم الباطنيّة وعلوم الطاقة ليتغذّى منها ويتعشّى ..!
الصلاة ، إسرار متبادل بين الله والإنسان . ليست الصلاة مجرّد تلاوة عبارات ٍ ، بل هي حديثٌ خاصّ مع الله . المسألة ليست مسألة إطلاع الله على أحوالنا ، بل أن نكونَ في موقف حقّ في العمق ، وهو موقف أبناء وبنات الله في طور التأليه . من الطبيعي أن يكونَ موقفنا موقفا بنويّا ، إسراريّا . الصلاة هي تقبّل عطية الله ونعمته ، الصلاة تُزامن الوعي لما هو الله ولما يعملُ في حياتنا ( فرنسوا فاريون ) . بمعنى ، أنّ الله يعملُ في داخل كلّ من أعمالنا الحرّة ، يضفي بعدًا إلهيّا على نشاطنا المؤنّس ، إذ لا يكون النشاط بشريّا في الحقيقة ، ما لمْ يكن مؤنّسا . تقومُ مهمّتنا ، أيّا كان نوعها ، على بناء عالم أكثر إنسانيّ . إن الله ، هو داخل كلّ قراراتنا ، وأنه يأخذها بعين الإعتبار ليضفي عليها بعدا إلهيّا بكلّ معنى الكلمة، لكي يكونَ نشاطنا المؤنّس لا نشاطا بشريّا فقط ، بل نشاطا بشريّا – إلهيّا . الله لا يمرّ من فوق رأس الإنسان وكأنه كائنٌ عجوزٌ بيده العصا ينظرُ إلينا من علياء سمائه ، ونحنُ على الأرض نعملُ كـ ” النمل ” أمام عينيه ! .. الله في أكبادنا وقلوبنا ، فهو متجسّد فينا ( الكلمة صارَ جسدًا ) . الكثيرون إلى الآن ، في هذه اللحظة ، لم يُدركوا عظمة سرّ التجسّد ، وسرّ بنوّتنا لله الحقيقيّة .. إنّ السرّ موجودٌ وحقيقيّ ، لكنّه لم يعملُ إلى الآن في أحشائنا وفي حياتنا بكلّ ديناميكيّة مسيحيّة . الروحُ القُدس عملَ وخلق وحرّر وخلّص ، وهو لم يتوقّف أبدًا ، فلا زالَ : يخلقُ ويحرّر ويخلّص ويُحيي … إنه الروح القدس الذي يجعلُنا أبناء الله وبناته ، أحرارًا مسؤولينَ ..
فقط ، عندما تُدرك أنّك إبنٌ لله – بنتٌ لله .. تتحرّر من كلّ مخاوفك ، وأوهامَك ، ومخيّلتك ، ووسواسَك المرضيّ ، الصور البشعة المشوّهة عن الله وعن الإنسان . الله والإنسان ، كلاهُما يعملان معًا كلاعبي الهجوم في مباراة الحياة ، ليوصلا إلى الهدف الأسمى , لا يعملُ الله من دون الإنسان ، ولا الإنسان من دون الله ، وهذا كان تاريخ الخلاص في العهدين القديم والجديد . الله يدعو ، والإنسان يلبّي النداء أو الدعوة الإلهيّة .
وصلنا أخيرًا إلى ، موضوع آخر ألا وهو : الإصغاء . كيف نقدرُ أن نتعلّم الإصغاء لله . يكتبُ جيرارد هيوغز ” إن الصورة المعيّنة التي نملكها عن الله تعتمدُ كثيرًا على طبيعة تربيتنا وكيف نتصرّف تجاهها ، لإنّ أفكارنا ومعرفتنا تنبعانِ من تجربتنا ” . الصور التي تعطيها إيّاها التربية البيتيّة من الأهل أو الأقارب ، تؤثّر كثيرًا وبطريقة عنيفة ، على تصوّراتنا عن الله وعن الحياة وعن العالم . وبهذه الطريقة ، لا نقوى على عمليّة الإصغاء السليم لله ، فالأهل ربّما يصوّرون لولدهم صورة قاتمة مخيفة عن الله ، بعيدًا ، جبّارا ، يزعل منّا ، يغضب .. الخ .. قليلٌ منّا يعطي صورة أبويّة عن الله ، وإنه مهما فعلنا فهو لا يزال يحبّنا لإنه أبٌ ونحن أولاده . فقط عندما نقدرُ أن نعرفَ أن الله ” أبونا ” ، قد نقوى على الإتصال والترابط الحيّ معهُ . أدركَ يسوع حضورَ أبيه في كلّ وقت ومكان ، إنه متّجه كليّا نحو ” الآب ” ومنه إلينا . إنه إتصالٌ شاملٌ بالآب . الأخ لورانس وهو راهبٌ من القرن السابع عشر ، إكتشفَ كيف ينفتحُ على الله في ظلّ مهامّه العادية اليومية . عاشَ في حضور الله ( وهذا هو معنى الصلاة الحقيقيّة – الشعور بحضور الله ) ، عبر الإنتباه البسيط ، في مطبخ الدير حيث يعمل . وفي وقت تنظيف الأرض أو في تحضير الطعام ، وقال ” إنه يكلّمني ومتعتهُ اللامتناهية هي رفقتي بآلاف الطرق ” . لم يكن يسوع متفهّما حكمة أبيه فقط ، بل توقيته . إنه الشخص المصغي الدائم للآب ، ويعرفُ توقيتاته ، إن يسوع له ” دالّة كبيرة وعفويّة ” مع الآب . إن ” متعوّد ” على نغمة الآب السماويّ . ويدركُ تخطيطاته ومشاريعه ولمساته . إنه الإبن الحقيقيّ لله . ويا ليتنا نكونَ هكذا ونصيرُ أبناءً حقيقيّين للآب السماويّ .. في هذه ” اللحظة ” فقط ، عند شعورنا ” بالبنوّة ” ، سندرك الكتاب المقدّس ، ونضعُ أنفسنا فيه ، لنقرأ حياتنا .
زينيت