كتب نور صفي الدين في المدن بتاريخ 22 آذار 2022
تنتج كل حرب بلا استثناء صوراً لا تمحى من الذاكرة، خصوصاً تلك التي تجسد الموت والألم والقهر الإنساني، وتتحول تلك الصور الصحافية بكل الصدمة التي تحملها إلى دليل دائم يرافق الذاكرة، يستنهض معها المشاعر الجمعية المرتبطة بالحدث الذي يتشارك فيه الجمهور عبر التعرض للميديا، وهو ما يبرز اليوم مجدداً مع الغزو الروسي لأوكرانيا.
وفي مراتٍ كثيرة تحولت الصور الصحافية الى بوابة رمزية تعرّف السطور الأولى للحرب، وتموضعها في موقفٍ محدّد، كأن تعكس فظاعتها ومواقف السياسيين والأنظمة منها، وتفضح الصمت العالمي حيالها، والأمثلة كثيرة على ذلك. أبرزها في السنوات الأخيرة صورة الطفل السوري آلان كردي الغارق على شاطئ في تركيا، والتي أتت حينها لتترجم معاناة السوريين الهاربين من الحرب والقيود اللاانسانيّة المفروضة على المهاجرين. وكذلك صورة الطفل محمد الدرة الذي قتل برصاص الجيش الإسرائيلي، وهي صورة ما زالت، بعد 22 عاماً، أيقونة تشير الى جرائم الحرب التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون.
وتبقى أخلاقيات الصورة الصحافية موضوعاً جدلياً في الغرف الإعلامية، فبين ما يجب على المؤسسة الاعلاميّة ألا تنشره وبين ما يجب عليها أن تقوله للجمهور، يبقى الموضوع ميداناً قابلاً للتباحث المستمر. واليوم، مع تغطية الحرب الروسية الأوكرانية، عاد هذا الموضوع بشدة، طارحاً تبريرات استنسابيّة، ومجرداً الصورة الصحافية من قيودٍ كانت ستتحول مع الوقت الى عُرفٍ إعلامي.
صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية نشرت قبل أيام، صورة لامرأة أوكرانية قتلت مع أولادها بصاروخ روسي. وإن لم يكن هناك في الحقيقة قواعد مكتوبة بمثابة صك اعلامي دولي، تحكم نشر الصور الصحافية ويجتمع عليها الاعلام العالمي، كانت هذه الحركة الجريئة مستغربة، إذ لم يعتد الإعلام الغربي الذي غطى بكثافة أحداثاً مهمة ودامية، مثل اجتياح العراق، وجريمة الكيماوي في غوطة دمشق بسوريا، وآخرها أحداث الشيخ جراح بالقدس، أن يظهر وجوه القتلى أو الدماء السائلة على وجوههم، مفضلاً تصدير الصورة “النظيفة” والمعبّرة في آن واحد، كصورة الطفل عمران دنقيش في حلب العام 2006، على سبيل المثال. ولطالما اعتبرت كبرى المؤسسات الإعلامية بأنّ أخلاقيات الصحافي والمؤسسة معاً، تفرض عليهما التنبه قبل التقاط ونشر صور قد تعرّضهم للمساءلة المهنية أو الأخلاقية من قبل جمهورهم.
وعلقت ملتقطة الصورة، الأميركية الحائزة على جائزة “بوليتز”، لينساي أداريو، في مقابلة: “ربما يكون ما قمت به غير لائق، لكن هذا ما يجب عليّ فعله. هذه جرائم حرب”. وبالطبع لا يمكن إنكار بأن عين الصحافي هي عين الحقيقة في الميدان، وأنّ الاعلام لطالما تعرض للنقد اذا ما تردد في نشر صورة ما، كوثيقة، ويعني ذلك الرأي أن الحقيقة غير قابلة للرقابة أو التجزئة، وواجب الصحافي يقتضي عرضها كاملةً من دون حذف أو تدقيق.
إلى ذلك، برزت صورة مماثلة لامرأة أوكرانية قتلت وهي حامل، التقطتها وكالة “أسوشييتد برس”، ونشرتها حسابات شبكة “سي إن إن” الأميركية في مواقع التواصل، من دون تحذير ينذر بحساسية الصورة.
ومن الملاحظ أيضاً، بأنّ “سي ان ان” دأبت على نشر صور النساء والأطفال في كادرات مختلفة، كان أكثرها حساسية صورة هذه المرأة الحامل التي قتلت جراء القصف الروسي كما أشار التعليق. في العادة، تعرف القاعدة الأولى ما قبل النشر الإعلامي، بأخذ الموافقة المسبقة قبل النشر وذلك من أجل احترام عائلة الضحية وعدم استغلالها، لكن الحاجة الملحة لتلقف المعلومات بشكل سريع حالت هذه المرة دون احترام الخصوصية.
السؤال الرئيس هنا يتعلق بكيفية إدراك الاعلام للحدث، ومعايير تصنيفه جرائم الحرب التي يُسمح لها كسر المحظورات التقليدية المتعلقة بالنشر. في المقابل، يصبح السكوت عن الكثير من الجرائم في الاعلام الغربي، أو على الأقل عدم منح هذه الجرائم حيزاً كبيراً من مساحة النقاش والتغطية، عقبة أمام موضوعية الاعلام.
ويمكن قراءة موقف الإعلام الغربي من الحرب في أوكرانيا، على أنّه موقف استنسابي لا يُجمع على رفض الحرب بشكل مطلق، وإنما يؤسس لهذا الموقف المتغير تبعاً لمتغيرات سياسيّة قد تكون ثقافيّة في بعض الأحيان. واستناداً لهذا الأداء، يمكن استيضاح التوجه الطارئ في التعامل مع الصورة الصحافية بشكل حر.
تتكلم الصورة بطرق عديدة، قد تكون أعمق من النص أحياناً، فهي تتوجه الى الحواس لتوقظ من بعدها العواطف. وبما أنّ عناصر الصورة هي أقرب الى الدليل الدامغ، بالمقارنة مع الكلمات، تتخذ بذلك أهمية مضاعفة لدى الاعلام الغربي الذي لا يسعى الى بناء موقف دولي وشعبي ضاغط فحسب، وإنّما يعمد إلى تأطير نافذة الاطلاع على هذا الحدث وتفاصليه في بناء السرد التاريخي.
والصورة لا تطرح معلومة فحسب، وإنما تحاجج بدليل مثبت يحرك مشاعر الخوف، والإحباط، والتعاطف، والغضب. فهل يجب على العالم أن يرى مشاهد الدم والقتل؟ إنّ الجواب على هذا السؤال مرتبط بالهدف من وراء نشر الصورة. ومن هنا يمكن القول أن سعي الاعلام الغربي بشكل عام، والأميركي بشكل خاص، لتكرار مشاهد النساء والأطفال في هذه الحرب على وجه التحديد، وهنّ كما انطبع في نظرة العالم، أكثر الشرائح وهناً، يؤكد أنّ الاعلام الغربي الذي برز كأحد المتمسكين بالأخلاقيات الإعلامية، اعترف بأنّه يمتلك الحق في التخلي عنها أحياناً، وفي حالات يعدّها استثنائية.
ورغم ذلك، فإن الحكم على نزاهة الاعلام العامل في ميدان المعركة، من موقع المتفرج البعيد، يبقى صعباً. لكن المشهد يحيل إلى معضلة دقيقة تستحق إعادة النظر، وتتلخص في أهمية ودور الأخلاقيات الاعلامية في وقت الحرب: من يحددها؟ وما هي العوامل التي تمنع إرساءها في كل زمان ومكان؟ أمّا التساؤل الثاني فيمسّ حق وجودة الأخلاقيات المهنية التي تخفي خلفها الاعلام في مرات عديدة، كي لا يتعرض أهل السياسة للانتقاد… وهذه حالات نعرفها في لبنان جيداً.