الصوم مسيرة نحو المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات. هو حجّ إليه، إلى القِبلة حيث وجهه. هو عبور من هذا العالم إلى الملكوت الآتي قبل الأوان. أصلاً، لا أوان بعد أن أتمّ المسيح ما أتمّه في تأنّسه. فبتأنّس كلمة الله انقضى الزمان، وبدأ زمان جديد هو زمان الملكوت الذي ليس سوى شخص يسوع المسيح. الصوم، إذًا، ليس غايةً في حد ذاته، بل هو وسيلة لا بدّ منها كي نعبر صحراءنا المجدبة بسبب الخطيئة إلى الملكوت الآتي.
يقول العلاّمة المسيحيّ أوريجنّس الإسكندريّ (+235): “إنّ يسوع هو نفسه الملكوت”. نعم، الملكوت هو شخص يسوع الذي به تمّ كلّ التدبير الإلهيّ لخلاص البشر. لذلك يجب التخلّي عن كلّ شيء للحصول عليه. فالملكوت “يشبه كنزًا مدفونًا في حقل، وجده إنسان فأخفاه. ومن فرحه مضى وباع كلّ ما كان له واشترى ذلك الحقل. وأيضًا يشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلمّا وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كلّ ما كان له واشتراها” (متّى 13، 44-46).
بمجيء يسوع أتى ملكوت السموات، أي أصبح في متناول البشر، ونزلت عليهم نعمة الله المجّانيّة. فالملكوت هبة مجّانيّة من الله: “لا تخفْ أيّها القطيع الصغير، لأنّه قد حسن لدى أبيكم أن يعطيكم الملكوت” (لوقا 12، 32). والشرط الوحيد لدخول الملكوت هو قبوله، والإيمان بمجيئه في شخص يسوع، والتوبة الناجمة عنه. ففي الموعظة على الجبل ينبّه يسوع مستمعيه قائلاً: “إنْ لم يزد برّكم على الكتبة والفرّيسيّين، فلن تدخلوا ملكوت السموات” (متّى 5، 20)، وأيضًا: “أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه” (متّى 6، 33). إذًا، ثمّة تغيّر ينبغي أن يطرأ في حياة المؤمنين بالمسيح، وقاعدة هذا التغيّر تقوم على التوبة والعيش بمقتضى هذه التوبة.
ليست الأشفيّة التي صنعها يسوع سوى آيات تشير إلى مجيء الملكوت في شخصه، وهو القائل اذهبوا وخبّروا أنّ “العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يُطهّرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون، وطوبى لـمَن لا يشكّ فيّ” (متّى 11، 5-6). غير أنّ شفاء العاهات والأمراض يرافقه دومًا غفران الخطايا، ولنا في شفاء المخلّع في كفرناحوم مثالاً ساطعًا، فيسوع قبل أن يشفيه توجّه إليه بالقول: “يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك” (مرقس 2، 6). فبدون التوبة وغفران الخطايا تكون الأشفية بلا معنى، فليست غاية يسوع شفاء الجسد وحسب، بل قد يكون ذلك أمرًا ثانويًّا، لأنّ الغاية الأسمى هي شفاء الإنسان من الخطيئة.
في بداية بشارته يقول يسوع: “لقد تمّ الزمان، واقترب ملكوت الله. توبوا وآمنوا بالإنجيل” (مرقس 1، 14-15). التوبة والإيمان صنوان لا يفترقان. شرط الإيمان الصحيح هو التوبة الحقيقيّة. والتوبة هي توبة عن الخطايا المقترفة أوّلاً، كتوبة العشّار الذي وقف يقرع صدره قائلاً: “أللّهم اغفر لي أنا الخاطئ” (لوقا 18، 19)، وتوبة زكّا الذي قال ليسوع: “ها أنا يا ربّ أعطي المساكين نصف أموالي، وإنْ كنتُ قد ظلمتُ أحدًا بشيء، فإنّي أردّ أربعة أضعاف” (لوقا 19، 8). ولكنّ التوبة هي أيضًا توبة إلى الله، أي رجوع إليه كإلى أب، والارتماء في أحضانه بثقة ومحبّة، كما فعل الابن الشاطر (لوقا 15، 11-32). التوبة اللفظيّة، إذًا، ليست توبة كاملة، بل الأعمال التي ترافقها وتتلاءم مع المحبّة والرحمة هي التي تجعلها توبة بكلّ ما للفظ “توبة” من معنى.
واقع الحال أنّ الإيمان من دون توبة باطل. فالإيمان ليس اعتناقًا لعقيدة، وليس مجرّد تلاوة للصلوات أو ممارسة للصوم… بل هو اعتناق لشخص يسوع، واقتداء به وبتعاليمه، وقبول لحمل الصليب في كلّ سلوك نقوم به تجاه الآخر. ومَن يقتني يسوع يكون قد اقتنى الملكوت، وهو ليس في حاجة إلى انتظار اليوم الأخير لدخول الملكوت، بل هو من اليوم الحاضر مواطن الملكوت. لذلك يقول يسوع لنيقوديمُس: “لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (يوحنّا 3، 16). اللافت هو أنّ يسوع لم يقل: “ستكون له الحياة الأبديّة”، بل قال “تكون له الحياة الأبديّة”، بصيغة المضارع الحاضر، أي منذ “الآن وهنا”.
مَن يحيا هنا مع يسوع، تائبًا، هو منذ اليوم الحاضر يحيا في الملكوت. حياته هنا تستمرّ في الآتي من الأيّام إلى حين اعتلان الملكوت السماويّ. لقد أعطانا يسوع أن نتذوّق الملكوت الآتي في هذه الحياة الفانية، ومَن يسعى إلى الحياة معه لن يخيب رجاؤه إذا كان أمينًا على العيش بمقتضى يسوع المسيح وتعاليمه. فليكن صومنا على هذا الرجاء.