“لا يستطيع أحد أن يعبد ربّين لأنّه إمّا أن يبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويرذل الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال” (متّى 6، 24).
المسيحيّة لا تقبل بثنائيّة الإله أو بتعدّده. ليس ثمّة إله لكلّ شهوة من شهوات بني البشر. ليس هناك ثمّة إله للخير وآخر للشرّ. ليس ثمّة إله للحرب، وآخر للخمر، وآخر للخصب… المسيحيّة أيضًا ليست ديانة تقبل بالازدواجيّة السلوكيّة في الحياة وفق حاجيّات الحياة الدنيا. أن تعبد الله في المسيحيّة يقتضي أن لا تضع رجاءك إلاّ به.
أن تعبد الله يعني أن لا تعبد سواه. ولكن أيضًا على قول السيّد المسيح، ثمّة وصيّتان متلازمتان لا تكتمل إحداهما من دون الآخرى، ومن دون ممارستهما لا تصحّ هذه العبادة: “تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ فكرك. هذه هي الوصيّة الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحبّ قريبك كنفسكز بهاتين الوصيّتين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء” (متّى 22، 37-40).
لا داعٍ للتذكير بأنّ القريب ليس قريبنا بالجسد وحسب، بل هو كلّ إنسان نلتقي به في حياتنا اليوميّة. قريبنا ليس فقط مَن كان شريكي في الدين أو في الطائفة أو في الوطن أو في اللون أو في العرق أو في الجنس… قريبنا هو كلّ إنسان خلقه الله على صورته ومثاله. وتزداد هذه القرابة كلّما زادت حاجة هذا الإنسان إلينا.
أن تعبد الله، إذًا، يقتضي أوّلا أن تحبّ أخاك الإنسان، ليس بالقول وحسب، بل بالفعل. وهذا يعني ألاّ تفضّل عليه شيئًا آخر، حتّى مالك. لذلك أشار المسيح إلى أنّ العائق الوحيد الذي قد يمنع الإنسان من محبّة أخيه الإنسان إنّما هو تعلّقه بالمال تعلّقَ عبادة. فالمسيح ساوى نفسه بالمحتاجين حين قال: “لأنّي جعتُ فأطعمتموني… وكنتُ غريبًا فآويتموني” (متّى 25، 31-46). أن تحبّ الله حقًّا يقتضي أن تحبّ الجائع والنازح والذي بلا مأوى، ليس بالقول أو بالفكر وحسب، بل بالفعل، أي بنقودك وبكلّ ما تملك.
يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم بطريرك القسطنطينيّة (+407): “يسمّي المسيح المال هنا ربًّا لا بسبب طبيعته الذاتيّة، إنّما بسبب تعاسة الذين ينحنون لنيره… فما أتعس المدانين من أمثال الذين يتخلّون عن الله ربّهم ليتسلّط عليهم المال تسلّطًا مؤلمـًا”. في الواقع، ليس المال شرًّا بطبيعته الذاتيّة، بل يصبح المال شرًّا حين يتعامل المرء معه بكونه هدفًا لا غاية لهدف أسمى هو محبّة الإنسان. المال يصبح شرًّا حين تصبح محبّته أقوى من محبّة الإنسان الآخر.
يقول يسوع في خاتمة كلامه عن المال: “اطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّه يزاد لكم” (متّى 6، 32). وفي هذا القول يقول المغبوط أوغسطينوس أسقف عنّابة (+435): “لمـّا قال المسيح اطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه أشار بوضوح إلى أنّ طلب الأمور الأخرى يأتي بعد ذلك، لا بمعنى طلبها في وقت لاحق، بل لأنّها ذات أهمّيّة ثانويّة. فما نطلبه أوّلاً هو الصلاح، وما نطلبه بعد ذلك هو ما نحتاج إليه. لكنّ طلب ما نحتاج إليه يتمّ في سبيل تحقيق الخير”.
أن يعبد الإنسان الله حقًّا يقتضي أن يتصرّف المرء بالمال باعتباره أنّ المال أمانة من الله يصرفها في أماكنه حيث ينبغي أن يُصرف، على أحبّة يسوع من المحتاجين والمستضعفين والنازحين والمعذَّبين… الإنسان لا يكون مالكًا ماله إلاّ حين يصرفه. هو مملوك من المال، لا مالك له، حين يحتفظ به لنفسه ظانًّا أنّه ضمانة لمستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده… أن تعبد الله حقًّا يقتضي أن تحبّ الإنسان أوّلاً.