يخبرنا تاريخ الكنيسة أنّ كلّ الهراطقة الكبار قد كانوا قبل ضلالهم قادةً في الكنيسة. كلّ أصحاب الهرطقات، ومن دون استثناء، كانوا من الباباوات والبطاركة والأساقفة ورؤساء الأديار والكهنة والشمامسة والرهبان… كانوا جميعهم من رجال الكنيسة. وقد صحّ فيهم قول القدّيس بولس الرسول للأساقفة: “بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعيّة. ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلّمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم. لذلك اسهروا…” (أعمال الرسل 20، 28-31).
رجال الكنيسة، مهما علت مقاماتهم، لا يملكون حصانة أو عصمة مرتبطة بمواقعهم بصورة آليّة، حصانة يتسلّحون بها تجاه أبناء الكنيسة وتجاه العالم. هم قد يخطئون في التعليم المستقيم فينحرفون، وقد يخطأون في الأخلاق والسلوك فيأثمون. هم كسائر البشر معرّضون للسقوط، فمواقعهم لا تحصّنهم ولا تعصمهم عن الوقوع في الخطيئة إذا هم اشتهوا الخطيئة وانساقوا إليها بحرّيّتهم. بيد أنّ كبار المدافعين عن الإيمان المستقيم كان معظمهم من قادة الكنيسة، ولا سيّما الذين اتّخذتهم الكنيسة آباء قدّيسين يستنير المؤمنون بتعليمهم واستقامة حياتهم.
يذهب أوريجنّس (+235) إلى حدّ التأكيد على أنّ الموقع الكنسيّ لا يعني بالضرورة قداسة الذي يتبوّأه. فـ”المسيح الدجّال” نفسه يتّخذ مكانًا مقدّسًا منبرًا لتعليمه الضالّ: “في هذا المكان المقدّس كثيرًا ما يقف المسيح الدجّال، الكلمة الكاذبة، وكأنّه الله، أو كأنّه كلمة الله. هذا هو نجاسة الخراب”. من هنا، يسعنا القول إنّ المكان المقدّس لا يقدّس الجالسين فيه بصورة آليّة أو سحريّة، هو يقدّس مَن يخضعون لكلمة الله، للتائبين الخاشعين المتواضعين. ولا يسكن الروح القدس في إنسان فيقدّسه، إذا لم يكن ثمّة تناغم ما بين مشيئة هذا الإنسان ومشيئة الله. الروح القدس يحترم حرّيّة مَن لا يريد أن يقتنيه، فيهجره منتظرًا توبته ليعود إليه ويسكن فيه ويقدّسه.
ينبئ الربّ يسوع تلاميذه، ونحن من بعدهم، بضرورة الاحتراس: “فكونوا أنتم على حذر. ها أنا أنبأتكم بكلّ شيء”. تعليقًا على هذه الآية يقول القدّيس كبريانوس القرطاجيّ (+258) عن الدجّال الذي يمكن أن يكون متربّعًا في الهيكل: “كلّما اهتاج الخصم كثرت أخطاؤه وارتفعت حماقته واضطرم صدره حسدًا، وصيّره الطمع أعمى، وأفسده الإثم، وزهاه الكبر، وأذهبَ الغضبُ عقله… فليحترس الإخوة من هذه الأمور”.
كيف، إذًا، يتصرّف المؤمن تجاه هذا الصنف من الخصوم؟ ينصحه كبريانوس بالقول: “تجنّبْ مثل هؤلاء الناس. أبعدْهم عن جنبك وأذنيك، وكأنّ حديثهم الضارّ يحمل عدوى الموت… إنّه عدوّ المذبح، ومتمرّد على ذبيحة المسيح. فهو للإيمان كفر، وللدين تدنيس. إنّه خادم متمرّد، وابن إثم، وأخ معادٍ، ومزدرٍ بالأساقفة، ومتخلٍّ عن الشيوخ، ومتجاسر على إنشاء مذبح آخر ليقيم صلاة أخرى بكلام محرّم، ومدنّس للتقدمة بذبائح نجسة”.
الدجّال حاضر، هنا وثمّة، يسعى إلى تضليل المؤمنين وجذبهم إلى الهلاك. هو يتّخذ صورًا بهيّة كملاك من النور، لكنّ داخله مملوء نجاسة وقذارة. وأشدّ الدجّالين خطرًا على المؤمنين هم الذين لهم مكانة هامّة في الكنيسة. غير أنّنا متيقّنون من أنّ الربّ لن يدع كنيسته لقمة سائغة في أشداق الوحوش، طالما هناك مؤمنون يتجنّدون للحفاظ على نقاء الإيمان المستقيم والحياة المستقيمة في الربّ.
العصمة ليست في البابويّة ولا في الأسقفيّة ولا في الكهنوت ولا في الأبوّة الروحيّة ولا في الرهبنة. تصبح في حال كهذه عصمةً تُستغلّ في سبيل خدمة الإرهاب الفكريّ والدينيّ، ولإسكات كلّ صوت نبويّ معترض. العصمة الحقّ أصولها ضاربةٌ في أعماق التوبة والصلاة والحياة وفق الروح القدس الساكن في كلّ المؤمنين. هذا الروح القدس لا يزال يعمل عبر بعض القادة وأعضاء الكنيسة، لذلك لن نفقد الرجاء بالربّ وبكنيسته وإن كثرت المحن واشتدّت الصعاب.
ليبانون فايلز