ندرك العلمانية فسحة تتوافر فيها قيم عدة أساسية، على رأسها احترام حقوق الإنسان، واحترام التنوّع بأشكاله كلّها، واحترام الحرّيّة الفرديّة… كما أنّنا نفهمها فصلاً تاماً ما بين الدين والدولة. أما مَن يخالف إحدى هذه القواعد فليس علمانياً ولا يمتّ بصلة إلى العلمانية.
ثمّة، في الواقع، علمانية مستبدّة لا تختلف عن الاستبداد الديني الذي تشهده ديار العرب من المحيط إلى الخليج. تتبنّى هذه العلمانية التطرّف منهجاً، والقمع وسيلة، والحظر فرضاً. كما أنها لا تعترف بالتنوع الديني والعرقي والاجتماعي، فتحاول طمس هذه الاختلافات تحت ذريعة الانصهار الوطني، أو عدم إثارة النعرات الطائفية، وسواها من الذرائع التي لا تستقيم.
العلمانية هي ثمرة من ثمار الحداثة. والحداثة تقوم أساساً على الحرّية الفردية وكلّ ما ينبثق عنها من حريات عامة، حرّيّة المعتقد وحرّية التعبير، حرّية الإيمان وحرّية الكفر… ومن دون هذه الحرّية تصبح “العلمانية” أي شيء آخر سوى نفسها.
في العالم العربي، ثمّة أنظمة تزعم أنها علمانية، غير أن استبدادها، وإن استعملت من حين إلى آخر آليات الديموقراطية من دون روحها، استبداد يماثل الاستبداد الديني الذي تمارسه بعض الأنظمة الأخرى أو بعض الحركات الإسلامية المتطرّفة التي تمارس العنف والتقتيل باسم الله والأنبياء.
أما في لبنان، بلد التنوّع الديني والمذهبي والطائفي، فعوض أن تكون العلمانية مجالاً حيادياً يمكنه أن يحتضن هذا التنوّع فيستثمره في صالح الخير والبنيان، نجد أنها، عبر بعض ناشطيها، تعادي الانتماءات الدينية وتحاربها. هذا النوع من العلمانية يقع في فخّ تحوّله إلى دين جديد له طقوسه وشعائره وشعاراته، دين جديد يقمع الحرّيات ويمارس الاستبداد الفكريّ مثله كأيّ فصيل متشدّد دينياً وعقائدياً…
هذه العلمانية التي تحارب المظاهر الدينية وتمنعها لا تختلف، منهجياً وفكرياً، عن المنظمات الدينية المتطرّفة التي تفرض الزيّ الديني أو إطلاق اللحى… هذه تمنع التزيّن بالصليب أو بالأيقونات المقدّسة وبآيات من القرآن، وتلك تمنع السفور والتزيّن بالصليب أيضاً ! كلاهما وجهان لعملة واحدة تتجلّى في قمع الحرّيات العامة.
الإساءة الأكبر للدين تأتي من بعض رجال الدين الذين يسهمون في تشويه دينهم وتعاليمه عبر تبنّي مواقف متطرّفة لا تأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والاجتماعي. أما الإساءة الأكبر للعلمانية فتأتي من بعض غلاة العلمانية، أو من أشباه العلمانيين، الذين يمعنون في تشويه العلمانية الحق غير آبهين بالأسس التي تقوم عليها، وأهمّها الحرّية.
ليس بالجهل المتبادل ولا بالتجاهل يمكننا محاربة الطائفيّة والقضاء عليها. بالجهل سوف تقضي علينا الطائفية، كما تقضي العاصفة على النعامة التي تظنّ أنها بطمر رأسها في التراب إنّما تحمي ذاتها. بل بالمعرفة الحق نبني المواطنة والمساواة والاحترام المتبادل والعدالة، وندفن الطائفية وكل أشكال التمييز ما بين المواطنين اللبنانيّين.
العلمانية الحقّ هي التي تسهم في نشر ثقافة قبول الآخر واحترامه من دون التخلي عن الهوية الذاتية. العلمانية هي الفسحة التي فيها يتمّ التنافس الودّي بين أبناء الوطن الواحد، مؤمنين وغير مؤمنين، من أجل كرامة الإنسان ورفع شأنها. فيا ليت شعري، أين هذه العلمانية المنشودة؟
النهار