لا ريب في أنّ القدّيس لوقا، في إنجيله، يشدّد أكثر من سواه من الإنجيليّين الثلاثة الآخرين على أهمّيّة الاهتمام بالفقراء والمساكين. ففيما ينقل القدّيس متّى عن السيّد المسيح قوله في الموعظة على الجبل: “طوبى للمساكين بالروح، لأنّ لهم ملكوت السموات” (متّى 5، 3)، نرى لوقا ينقل عن المسيح القول نفسه بالشكل الآتي: “طوبى لكم أيّها المساكين، فإنّ لكم ملكوت الله” (لوقا 6، 20). “المساكين بالروح” صارت “المساكين” عارية، مجرّدة من أيّ تصنيف.
في هذا السياق، يقول السيّد المسيح لأحد رؤساء اليهود من الفرّيسيّين: “إذا أقمتَ وليمة غداء أو عشاء، فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوانك ولا أقرباءك ولا جيرانك الأغنياء، لئلاّ يبادلوك الدعوة فتنال المكافأة على صنيعك. ولكن، إذا أقمتَ وليمة فادعُ المساكين والكسحان والعرجان والعميان. فطوبى لك إذ ذاك لأنّهم لا يسعهم أن يكافئوك فتكافَأ في قيامة الأبرار” (لوقا 14، 11-14).
نحن في حاجة، ونحن على أبواب عيد الميلاد المجيد، أن نتذكّر هذا الكلام، ونعمل بموجبه. فالمسيح حين أكّد على ضرورة دعوة المساكين من كلّ الفئات، كان يقصد أن يقول لنا إنّنا إنْ شئنا دعوته إلى مشاركتنا في الوليمة فينبغي أن ندعو المساكين كافّة إلى الوليمة، هكذا نكون قد وجّهنا إليه دعوة خاصّة، وتاليًا يكون حضورهم الوليمة بمثابة حضوره هو شخصيًّا.
قبل عيد الميلاد بأسبوعين نقرأ في الكنيسة مثَل “المدعويّن إلى الوليمة” (لوقا 14، 15-24)، وهذا المثَل يلي مباشرة الفقرة المستقاة من إنجيل لوقا أعلاه، كأنّه أتى ليضفي المزيد من الأهمّيّة على مركزيّة محبّة المساكين لنيل الخلاص، أو كما قال القدّيس كيرلّس الإسكندريّ “لأنّهم كانوا قساة القلوب ضرب لهم المسيح مثلاً يشرح فيه لهم طبيعة الزمن الذي ينشئه لأجلهم”. أمّا المثَل فيتحدّث عن رجل أقام وليمة فاخرة ودعا إليها كثيرًا من الناس، فلم يلبِّ دعوته أحد من المدعوّين متذرّعين بأسباب شتّى. حينئذ، أرسل صاحب الدعوة خادمه إلى ساحات المدينة وشوارعها لكي يدعو “المساكين والكسحان والعميان والعرجان” الذين لبّوا الدعوة على الفور. وفي الختام يقول صاحب الدعوة: “لن يذوق عشائي أحد من أولئك المدعوّين (الذي رفضوا الدعوة)”.
صاحب الدعوة في المثَل يرمز إلى الله، وكما يقول كيرلّس الإسكندريّ: “التشبيه، هنا، يمثّل الحقّ، وليس هو الحقّ نفسه”. ويتساءل كيرلّس إلى مَن يرمز الخادم (أو العبد) في المثَل؟ وهو نفسه يجيب: “مَن هو المرسَل؟ إنّه كان عبدًا. ربّما كان المسيح. على الرغم من أنّ الله الكلمة هو الله بالطبيعة وابن لله الآب الذي أعلنه لنا، فقد أخلى نفسه وأخذ صورة عبد”.
أدرك التراث الكنسيّ أنّ المسيح، في هذا المثل، يتماهى مع المساكين في أصنافهم كلّها، أي مع المدعوين، ويتماهى في الوقت ذاته مع العبد الذي أُرسل لدعوتهم. المسيح هو المدعو والداعي في الوقت عينه! قلنا هو المدعو والداعي، لأنّ صاحب الدعوة يتماهى مع عبده، لأنّ عبده ليس دونه في الكرامة.
في الميلاد نحن مدعوّون إلى أن نتمثّل بالمسيح، صاحب العيد، فندعوه إلى العشاء عبر دعوتنا لأحبّائه من المساكين. هكذا نتشبّه بالمسيح مرّتين: عبر أدائنا دور صاحب الدعوة، وعبر اهتمامنا بالمساكين المدعوّين كأنّنا نهتمّ بالمسيح نفسه. هنا، يحضرنا قول المسيح لتلاميذه قبيل القبض عليه: “الفقراء معكم في كلّ حين، وأمّا أنا فلست معكم في كلّ حين” (يوحنّا 12، 8). نعم، الفقراء معنا في كلّ حين، وبهم المسيح معنا في كلّ حين.
الأب جورج مسّوح