اليوم، الواقع فيه الخامس والعشرون من شهر تشرين الثاني، عيد “القدّيسة العظيمة في شهيدات المسيح كاترينا الكلّيّة الحكمة”، كما تصفها الكنيسة الأرثوذكسيّة. وهي، على ما جاء في سيرتها، من عائلة نبيلة عاشت في مدينة الإسكندريّة، وحصّلت علوم زمانها فبرعت في الفلسفة والبلاغة والشعر والعلوم الطبيعيّة واللغات، “كلّ ذلك ولم يتجاوز عمرها العشرين ربيعًا”.
أدركت كاترينا باكرًا أنّ إيمانها يحتّم عليها أن تضع ذكاءها ومواهبها ومعارفها في خدمة الكنيسة. فواجهت الإمبراطور مكسيميانُس (305-311) الذي دعا رعاياه كافّة إلى عبادة الآلهة الرومانيّة وتكريمها، فقالت له رافضةً الخضوع لإرادته: “إنّ عبادة الأوثان مفسدة لا يجيزها العقل السليم، والأوثان لا وجود لها، بل المنطق يُظهر أنّه لا يمكن أن يكون هناك غير إله واحد هو أصل الموجودات كلّها وعلّتها. وهذا سلّم به كبار الفلاسفة الوثنيّين وبيّنوا، في المقابل، فساد الاعتقاد بكثرة الآلهة”.
أدرك مكسيميانُس ضعف حجّته أمام كاترينا فاستدعى الفلاسفة والحكماء لمجادلتها وإقناعها بعدم صواب رأيها. لكنّ كاترينا سرعان ما أفحمتهم، وبيّنت التناقض والتضارب والتضادّ في أقوالهم وتعاليمهم ومعتقداتهم، فأمر الإمبراطور بقتلها هي وبعض الحكماء الذين اقتنعوا بآرائها واعتنقوا المسيحيّة. وهكذا استشهدت بعد تعذيبات مريرة بقطع رأسها.
ماذا يعني لنا اليوم التعييد لتذكار القدّيسة كاترينا؟
يسود الاعتقاد في زماننا الحاضر بأنّ الأوثان قد انتهى زمانها، فليس ثمّة تماثيل وأصنام يقف أمامها الناس ليعبدوها أو ليسجدوا أمامها، إلاّ أنّنا، إن أنعمنا النظر في ما حولنا، لرأينا أنّ “إله المال” (“لا تعبدوا ربَّين الله والمال” في كلّ زمان ومكان)، و”إله الحرب” (قادة العالم الذين يشنّون الحروب باسم الله)، و”إلهة الجمال”، و”إله الخمر”، وسواها من آلهة الأساطير اليونانيّة والرومانيّة والحضارات القديمة كافّة، ما زالت مهيمنة على الحياة العصريّة عبر النمط الطاغي عليه روح الاستهلاك المهلك. وليس صدفة أنّ الاستهلاك والهلاك يشتقّان من الجذر ذاته.
اللافت أنّ هذا النمط من عبادة الآلهة يزداد حضورًا في مواسم الأعياد الكبرى، وبخاصّة في عيد الميلاد المجيد، حيث يلتهي الناس بكلّ المظاهر التي لا تمتّ بصلة إلى معنى العيد الحقيقيّ، من زينة وتبادل هدايا وبابا نويل، وينسون صاحب العيد حبيب الفقراء والذين بلا مأوى. لذلك، التعييد لكاترينا يكون بالابتعاد عن هذا النمط الاستهلاكيّ القاتل، كي يتلاءم سلوكنا مع ما تقوله الكنيسة في صلاة العيد: “أيّتها الكلّيّة الحكمة كاترينا، إنّ كلامك قد اجتذب كثيرين من حماقة العبادة الوثنيّة إلى الخلاص”.
لسنا، إذ نقول هذا الكلام، أعداء الحداثة والازدهار والتطوّر والعمران والرفاهيّة، بيد أنّنا لا يمكن أن نكون إلاّ ضدّ هذا الوجه البشع منها، ضدّ استعباد الإنسان وجعله وسيلة لا غايةً، ضدّ سيطرة الشهوات على العقل والقلب، ضدّ تشييء الإنسان وتحويله إلى رقم بلا اسم.
تعلمنا سيرة القدّيسة كاترينا أيضًا أنّها وضعت كلّ طاقاتها العقليّة والعلميّة والفلسفيّة في الدفاع عن الكنيسة، وتخلّت عن مغريات هذا الدنيا وما تثيره من شهوات باطلة، هي التي تشير سيرتها إلى “جمالها الفائق وحُسنها الجذّاب”، لم تستكبر بمواهبها لتغذّي أنانيّتها وغرورها، بل استعملت هذه المواهب لدعم الإيمان وترسيخه في قلوب المؤمنين، “لم تستهنْ بحداثتها”، فأصبحت منارةً في الكنيسة. هذا يعني أيضًا أنّ استعمال العقل ليس عيبًا ولا نقصًا في الإيمان. لقد ميّزَنا الله عن باقي المخلوقات بالعقل، وكلّ ما خلقه الله رآه حسنًا. كاترينا استعملت عقلها لخدمة الكنيسة، وقد فعلت حسنًا.
الآن، نمتدح كاترينا، ونسمّي بناتنا وكنائسنا ودياراتنا باسمها… لكن هل ثمّة مَن يريد التمثّل بها، فيخدم الكنيسة بعلمه وبمواهبه، ولو اقتضى منه ذلك تقديم ذاته شهادة عن الإيمان؟
• لمزيد من المعلومات عن سيرة القدّيسة كاترينا: الأرشمندريت الراهب توما بيطار، سير القدّيسين وسائر الأعياد في الكنيسة الأرثوذكسيّة (السنكسار)، الجزء الأوّل، ص 458-461.
ليبانون فايلز