إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،
وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،
وإلى المؤمنين بالمسيح أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،
المسيح قام، حقاً قام.
هذا هو إيماننا، وهذه قوة الله التي لا يمكن للموت أن يقوى عليها. فالآب الذي أرسل ابنه الوحيد إلى العالم متجسّداً من مريم العذراء، ليعكس أمام عيوننا الترابية نور وجهه البهيّ، وليفتح من جديد طريق السماء التي أُغلقت أمامنا، أو بالأحرى أغلقناها نحن البشر، بفعل خطايانا، لذلك لم يترك الله الآب ابنه يرى في القبر فساداً بل أقامه من الموت لتبدأ لنا به ومعه حياتاً جديدةً، “أما أنا فقد أتيت لتكون الحياة للناس، وتفيض فيهم” (يوحنا 10:10).
ولقد أدرك القدّيس بولس منذ إهتدائه على طريق دمشق سرّ هذه الحقيقة، في ضوء الوحي الذي أُعطي له من الله، فاطلق على السيد المسيح صفةً آدم الجديد، واهب الحياة ومانح الخلاص، بدلاً من آدم الأول الذي منه وُلدنا، والذي أورثنا الخطيئة والهلاك والموت. فأصبح واجباً علينا نحتفل بعيد القيامة وما يسبقها من صلوات وتأملات أثناء أسبوع الآلام، أن نعود إلى التعمّق في هذا السرّ لنعرف المدّة الزمنية ونكشف ما أنجزناه وما لم نفعله أثناء فترة الصيام من أعمال التوبة والمحبّة والرّحمة، لنتخطّى بؤس آدم القديم، وبين دخولنا الحياة الجديدة، حياة النعمة والقداسة والفرح التي صارت لنا بآدم الجديد.
الله يفتقد شعبه بالآلام:
في أسبوعٍ الآلام شاركنا عذابات يسوع المسيح له المجد، وكان لنا في هذه المشاركة تأملات عديدة بيّنت لنا تواضع ومحبّة وعطاء وتضحية السيّد المسيح، تلك التي حملته إلى الآلام والموت من أجلنا ومن أجل خلاصنا “ما من حبٍّ أعظم من حبّ من يبذل نفسه في سبيل أحبائه”. وصلّينا معه نادمين من أعماق قلوبنا وقائلين: “إنّني خطئت إلى السماء وإليكَ” (لوقا 18:15). إن أُمنا الكنيسة لا تريد لنا سوى أن نحيا سرّ إفتقاد الله لشعبه بابنه الوحيد في عُمق صعوباتنا ومشاكلنا.
لقد سُمّي المسيح يسوع “عمانوئيل” أي الله معنا، وفي هذه التسمية الجميلة دلالة على أرضنا، وبلاد الشرق الأوسط، المصابة بوباء سوء التفاهم بين الإخوة، وبالشرور الناجمة عنه من أعمالٍ إجرامية وإرهابية غير إنسانية، من إنتحارات وتفجيرات وخطف، وإبادات جماعية، وانتهاكات للأديان وحطّ من كرامة الإنسان وحقوقه، وغيرها من الأعمال التكفيرية باسم الله والدين، والتي نشاهد آثارها المؤلمة كل يوم على شاشات التلفزة في ويلات الحروب والتهجير وقهر المقهورين وظلم المظلومين.
شرقُنا العزيز، أرضٌ لم يتخلّى الله عنها، وهو يفتقدها برحمته وحنانه كغرسةٍ محبوبة زرعتها يمينه.
القيامة إنتصار على الشرّ:
إن كان المسيح قد عانى الظلم وهو البريء المُطْلق، وحمل صليبه وهو الحامل إلينا النعمة “لابنٍ وحيد مِلؤه النعمة والحقّ… فمِن مِلئِه نِلنا بأجمعنا نعمةً على نعمة” (يوحنا 14:1-16). ولأنه أصبح واحداً منّا في كل شيء ما عدا الخطيئة، وزار كل إنسان في عمق تعاسته لكي لا يشعر أحد أنه متروك في معاناته وآلامه أو وحيد من دون إلتفاتة محبّة من الله الذي جبله بيديه ولا يمكن أن ينساه.
لقد تجسّد ابن الله ليكون معنا ويحمل في جراحاته آثامنا وأوجاعنا. وقام من بين الأموات لنكون معه ونسير على درب قيامته، صاعدين الجُلجُلة لتتكوّن فينا ملامح الإنسان الجديد المُفتدى. وإذا كان المسيح قد غلب الشرّ والموت بقيامته، فالشرّ والموت هما بقوة القيامة حتماً إلى إنكسار.
إنه العهد الجديد يطلّ علينا وعلى الإنسانية، عهد التغيير الجذري الكامل نحو الأفضل لقهر الصعوبات ورفع الحجر ودحرجتها من على صدورنا. إن التاريخ قد اتسع بقوة القيامة لهذا الإنتصار إنطلاقاً من المسيح وبفعل من يرتبطون معه بالإيمان ويحيون بقوته بالرجاء وينشرون باسمه في الأرض كلها رسالة وثقافة المحبّة.
نرتبط بالمسيح أولاً بفعل إيماننا به. وبفضل هذا الإيمان، تتحوّل حياتنا لتصبح صورةً حقيقيةً عن حياته، ومواقفنا وتصرفاتنا وأعمالنا وفقاً وطبقاً لمواقفه وتصرفاته وأعماله.
المؤمن يرى انتصار المسيح على الشرّ نعمةً بها ينال من ربّه نعمةّ تغيير ما في داخله لينتصر هو بذاته، على مثال مٌعلّمه الإلهيّ، على كل الشرور والأوجاع والفشل التي تصادفه في حياته ليعطي ثماراً جديدة. المؤمن المعمّد يدخل في حياة المسيح يعيش ويموت على شبه حياته وموته، وينهض إلى الحياة والانتصار إلى شبه قيامته، شاهداً لكل ما عمل وعلّم فاديه.
نحن أيضاً، نرتبط بالمسيح الذي يوقظ فينا الرجاء بوصولنا إلى ما وعد به: “هاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم” (متى 20:28). فكم من الظروف والصعوبات التي حولنا تجعلنا في يأسٍ وتعرقل قدرتنا على الوصول في التغيير إلى ما نصبو إليه ونريده؟ أن المسيح يقف أمامنا مقوّياً ومشجعاً ومعزّياً ويقول: “تعانون الشدّة في العالم ولكن ثقوا إنّي غلبت العالم” (يوحنا 33:16). نحن نؤمن بالمسيح المنتصر لأننا معه نغوص إلى الجوهر، وفي الجوهر لا قوة في العالم تقوى على المسيح. وإذا كانت هناك أمورٌ لا تسير على ما يرام في حياتنا فلأن هناك ثمناً يجب علينا أن ندفعه من صلاة وتوبة وتضحية روحيّة وأعمال رحمة فترتفع عندئذٍ حرارة الخير فينا لتزداد انتشاراً على الأرض والمجتمع وتقوى، عندئذٍ نغلُب الشرّ بالخير والإيمان.
هوية آدم الجديد المسامحة والغفران:
من أجل ذلك نحن مرتبطون بالمسيح لنشر عبير محبّته وتعاليمه بين الناس. لقد عرفنا في حياته أن الموقف الأقوى هو موقف المسامحة. هذه هي هوية آدم الجديد الذي دعينا إلى أن نلبس صورته ونحيا على مثاله. لقد غفر لأعدائه وصالبيه وعلّمنا أن نقتدي به إذا كنّا حقيقةً نعد أنفسنا تلاميذه. فالجديد في تعليمه أن الناس لا فرق بينهم، ولا ينقسمون إلى أغنياءٍ وفقراء، إلى غرباء وأقرباء، ولا إلى أعداء وأصدقاء بل هم جميعاً مدعوون إلى نبذ العداوة والعنف والغربة من صفوفهم، لأنه صالح الجميع بدمه الذي أهرقه من أجلهم. ولأن إرادته هي في أن يجمع أبناء الله المشتّتين والبعيدين إلى واحد.
فالمحبّة إذاً تبني الملكوت ولا تخطئ أبداً في حلّ مشاكل العالم ونزاعاته. بينما غيابها يجلب خيبات الأمل واليأس والتقهقر على كل المستويات الإنسانية والروحية والإجتماعية والتربوية والاقتصادية.
القيامة بالمحبّة أقوى من الموت:
المحبّة وحدها تُصلح أن تكون نظاماً لسياسة العالم. وما يفرِّحنا في الشرق أن القناعة تترسّخ بالمحبّة التي لا تسعى إلى منفعتها بل تفرح بالحقّ، وتجعلنا أن نتقبل بعضنا لبعض. ومشاركتنا في السرّاء والضرّاء لا تُنسج إلّا بخيوطٍ من المحبّة. بهذه الرّوح يسير شرقنا والعالم على درب القيامة وينتصر على الشرّ والظلم. ومحبّتنا الوطنية تكتمل بالتضامن والتضحية من قِبَل كل إنسان أو مؤسسة في سبيل الوطن والآخرين.
فهل نحن على استعداد لهذه التضحية، لننتصر كالسيّد المسيح على العالم وشروره؟
إنّنا لا نرى مخرجاً للمشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد إلّا إذا قَبِل الأغنياء التضحية من أجل الفقراء، ليكونوا بحق متساوون بالخيرات. والمخلصين والأوفياء للأوطان لينشروا السلام والأمن والإستقرار في البلاد ليكونوا بحقّ شعباً واحداً. وعلى المربّون والأساتذه زرع مبادئ الأخلاق، والعيش المشترك، وترسيخ العلم والإيمان في صفوف الطلاب جيل المستقبل، لتأمين مجتمع واعٍ ونزيه. وإلّا نحن ندور في حلقةٍ مفرّغة دون أن نعرف الوصول إلى التقدّم والإستقرار سبيلاً.
فليلهم فداء المسيح وقيامته ضمائرنا من جديد، وليعطينا رجاؤه مزيداً من الأمل، لنقوى بقدراتنا على النهوض والإنتصار. ولتمنحنا قيامته صفاء القلوب وسلامة النوايا ومقدرةً على الغفران. عندئذٍ يدخل العيد إلى حياتنا ويجدّد قلوبنا ويٌدخِل إليها فرح السماء والأرض ونرنِّم: “المسيح قام من بين الأموات ووطيء الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”.
عن أبونا